في هذا العمل الروائي الجديد، المعنون” قطط إسطنبول” الواقع في 294صفحة من القطع المتوسط، طبعة أولى2023، منشورات نون4 للنشر والطباعة والتوزيع، يخوض المبدع السوري زياد كمال حمّامي، غمار تجربة روائية جديدة، تكلل مشواره الإبداعي القيم والمنذور للفرادة والاستثناء.
تتآلف ضمن عوالم هذه السردية جملة من المواضيع، في تناغم تام، وبلغة سلسة صافية تترجم نبض الواقع بوعي ومسؤولية.
الدعارة، تبعات اللجوء الاضطراري، خطاب العنصرية وإكراهاته، وهلم جرا، من أزمات حياتية وهوياتية، تختبرها كائنات هذه الرواية، وتكابد مرارتها شخصيات هذه المسْرحة الحكائية، بأسلوب لبق مراوغ أخاذ.
يقول:
{في هذه الليلة الشاردة من ليالي البؤس، التقى الصبية “شام” عند مدخل الحديقة، رآها تمشي متعرجة تغني، راعه بياض وجهها وطول عنقها الذي تتدلى منه قلادة تقليدية زائفة، وثوبها الملون شديد اللمعان، حيث كان يتبعها رجل عجوز سكير، فاقد رشده، حتى أنه لم ينتبه أنها تشعل سيجارا وتترنح، وحين قادتها قدمها إلى الدخول، كأنها معتادة على زيارة الحدائق بعد منتصف الليل، وقف الرجل السكير الذي يتبعها قليلا، ثم غب من عبوة في يده، سعل سعالا شديدا، ومضى في طريق آخر وهو يشتم الدنيا وما فيها، وظل الرجل يمشي مترنحا أيضا، بينما وقعت العصفورة على الأرض، قرب الشجرة، وبدأت تصيح بهستيريا وجنون:
ـــ أنا شام.. أنا لست داعرة.. أنا.. شام.
اقترب منها ” اللولو” بهمة ورفق، أسند ظهرها إلى جذع الشجرة، فاحت منها رائحة الخمر والتبغ والعطر الأنثوي، حاولت أن تبعده عنها، هتفت بصوت خفيض:
ــ أتركني في حالي، أنا لا أعرفك، وأنت لا تعرفني، أتركني.}(1).
من هنا لم تجد الذات الساردة ضيرا في تبنيّ التفشي التعبيري الطقوسي، ومسايرة دهاليزه، سواء من حيث بث ثقافة الانتصار لقيمة مثلى ومركزية اسمها الحب، أو الاحتماء بأقنعة الانتماء إلى هوية المشترك الإنساني، على الرغم من إكراهات واقع رفض هذا المعطى من قبل الحزب المعارض في بلد اللجوء، خاصة في اتخاذ مثل هذا الحزب من الوردة شعارا له، ونحن نعلم دال هذا وما يعكسه من معاني لصيقة بالتيمة الأساس التي ستتمحور عليها السردية في سياقها العام، لاحقا، أي تيمة الحب، كعلاج للعديد من الأوبئة المجتمعية والسياسية والنفسية وحتى الاقتصادية.
لذا فقصة الحب الذي سيجمع بطل الرواية الرئيسي ” اللولو” بالصبية السورية” شام” ليست من قبيل العبث أو الاعتباطبة والمجانية، في صيرورة الحكي هنا، بل استحضار ذلك مقصود ويسجل حضوره بكل وعي ودراية فنية وتعبيرية تلهب الأحداث، كما تمنح المنجز توازيا فيما يرتبط ببعدي عرفانية وجمالية هذا العمل السردي القيم.
إن شخصيات الرواية هنا، سواء أكانت تتمتع داخل حدود نظير هذه السردية، بالأدوار الطلائعية البطولية، أوالثانوية الضرورية المكمّلة، إنما تمّ توجيهها لتخدم معطى الحب الذي يصون للأنثى عفتها ورمزيتها ونموذجيتها ومثاليتها، فضلا عن أغراض التوعية بضرورة التعايش وقبول الآخر تحت مظلة الدين الواحد، بدرجة أولى، الإسلام بحنيفيته واعتداله، كما بصدد بلد من قيمة تركيا، ومدينة عالمية كإسطنبول، هنا، وبما يجمع ما بين الانتساب للعالم الإسلامي والحضارة الغربية على حد سواء.
لذلك جاء نضال” اللولو” بهذا الدافع العاطفي والوجودي الكبير، بما قد يحدث ثورة في وطن اللجوء، مفادها أن الكائن بحضوره الديني المتعايش والمتسامح والمنفتح والأكثر قابلية لاستيعاب مظاهر الاختلاف والتعدد، لا الغلو العقدي والتقوقع والعصبية والعنصرية والاضطهاد السياسي، أو قد يرج الراكد، في أقل تقدير.
ويقول كذلك:
{نظر اللولو بأسى إلى جسد القط المسكين، واتجه نحوه بهدوء، وحين وقف أمامه، جلس القرفصاء كي يحمله، الغريب في الأمر أنه عندما نظر إلى وجه، كانت المفاجأة غريبة إلى جد الجنون، إن وجه القط الحنطي هو وجهه نفسه.’ القط هو اللولو نفسه، يا للعجب.’
ماذا حدث؟.’ وبسرعة توجه إلى المرآة، وحين نظر فيها، استغرب.’ تلمس جسده، رأى رجلا في وجه قط.’ فصاح من الخوف، صاح.. صاح.. صاح، وحين فتح عينيه، استيقظ مذهولا من هذا الكابوس، حيث كانت الشمس، قد أشرقت في يوم غائم.
في تلك اللحظة من أيام اللجوء، لم تكن الحرب في بلده قد توقفت، فلم يستطع أن يتخلّى عن نفسه، وأن يكون مجرد شبه قط من قطط إسطنبول الساحرة، نظر إلى السقف المتشقق وصرخ بألم:
ــ أنا لست قطا.’
تلقفت الجدران الصماء صدى كلماته النازفة، ولكن يا للأسف لم يسمعه أحد غيرها، حتى النافذة المكسورة ابت أن تقذف هذه الأصوات إلى الخارج والعالم والكون كله، ذلك لأنها كانت مغطاة أيضا ببطانية كاتمة للصوت بإحكام شديد.}(2).
لذا تلكم الحاجة، أو العوز الإبداعي للبوس الغرائبي المسعف بتقنيات التحكم بالشخوص وتطويع الأحداث والمناخ السردي، ليكيفه مع إملاءات مثل هذه الظاهرة، أو الاستشكال الهوياتي الكبير.
آلية أقرب إلى المسخ منها إلى شكل تعبيري آخر.
فصيلة القطط أو ما ينجم عن راهنيتها من إسقاطات قد تعلل الحضور الغير المرغوب فيه لنخبة من اللاجئين، الأكثر وعيا بقصصهم، بل الأصدق انتماء وحنينا إلى المنبت والجذر الذي حرّقته الحرب المجنونة الجائرة.
برزخية أو إكلينيكية نفسانية تبارك أصوات اللجوء هذه، والتي تود أن تضيف إلى أرض اللجوء، على زخم القواسم المشتركة ما بين الطرفين، لا أن تنقص منها أو تتبوأ من حيّزها، كراسي العطالة والشغب والاتكالية والفوضوية والهدم.
فالمهاجر هنا ليس فيروسا مرعبا، بقدر ما هو إنسان عاقل وكامل ومضطر، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ذو شخصية متحضرة وأكثر قابلية للتعايش والتسامح، بحيث أن كل ما أهّلها لذلك، هو الانرسام العفوي لملامح قصة حب حقيقة وصادقة، قادرة على تصحيح أخطاء التاريخ، وقلب المعادلات صوب ما يتيح انخراطا واعيا ومسؤولا في فصول التصالحات على موسوعيتها وفي صميم شموليتها.
تصالح مع الذات، بعيش صفحات الحب الصادق والعادلة بحذافيرها، وبعد ذلك، التصالح مع الآخر، وفق قواعد التمرد على الصورة السلبية والناقصة لأسراب اللاجئين، في عقل ووعي هذا الآخر العنصري الحاقد، أي هذا الذي يمثل المعارضة في حزب سياسي غير عابئ بما هو إنساني، ما تنفك تنخر رهاناته النفعيات الضيقة والأنانيات وخطاب العنصرية والكراهية.
بذلك نلفي المبدع زياد كمال حمّامي رصّع سرديته، مختزلا أنساقها في أصوات اللجوء، مانحا إيها القوة والرمزية، اتكالا على البعد القيمي للعلاقة العاطفية الصافية والنقية، رفضا لسائر أنماط الاتجار بإنسانية الكائن، بصرف النظر عن عرقه أو لغته أو معتقده أو ثقافته.
إنها البطولة النموذجية لأشباه” اللولو” في شرف المحاولة.. محاولة الجهر بصوته كلاجئ، تطلّعا لكونية حاضنة، ترتب ما يمكن ترتيبه، وتجوّد اللملمة، قبل فوات الأوان.
***
بقلم أحمد الشيخاوي – شاعر وناقد من المغرب
…………………..
هامش:
(1) مقتطف من فصل الرواية الأول، صفحة7/8.
(2) مقتطف من الفصل25من الرواية، صفحة160/161.
انظر رواية” قطط إسطنبول” لزياد حمامي، طبعة2023، منشورات نون4 للنشر والطباعة والتوزيع، حلب ــ سورية.