قبل الحديث عن اللغة العربية، بالأخص عن اللسان العربي الفصيح، تجدر الإشارة إلى الوقوف عند مفهوم الجاذبية في معناه العلمي، والأسباب التي جعلت من العربية لغة تسحر أقواما عديدة عبر التاريخ.
لقد أثبتت العلوم الفيزيائية أن ظاهرة التجاذب والتنابذ هي التي تحكم العلاقة بين عناصر الكون المادية والكتل والأجسام ، من الذرات إلى المجرات، وهي قوام الحركة والتفاعل، وفق سنن لا تجد لها تبديلا، كما شاء مدبر الكون سبحانه وتعالى.
وإذا سلمنا بأن هناك جاذبا ومجذوبا وتابعا ومتبوعا على مستوى الكون المادي، فإنه يمكن أن نلاحظ ظاهرة الجذب والنبذ في الاجماع البشري، حركيته، علاقاته، أنشطته، إن على مستويات وجوده ماديا ومعنويا وروحيا.
ومن اليقين أنه عندما تكون حاجة المحب إلى المحبوب شديدة، ورغبة الطالب في المطلوب قوية، فإن قوة الجاذبية من جانب المحبوب تجتذب المحب اجتذابا، وتجعل الطالب مصرا وحريصا على بلوغ المطلوب.
وفي دائرة التفاعل بين الطرفين، تكشف الحركية عن تأثير وتأثر متبادلين، عطاء ونفعا وغدقا وانتفاعا وفق سنن التدافع البشري.
ومن بين هذه الأسرار التي تتمتع بها لغة الضاد، نجرد الآتي:
إن الله تعالى لم يُرسل رسولا إلا بلسان قومه، ولما شاءت حكمته تعالى أن يختم رسالاته اصطفى لذلك نبيا عربيا، لتبليغ أمره لأمة العرب أولا ثم لغيرها من الأمم، بلسان عربي معجز بنصه ومضمونه وحقائقه الممتدة في الزمان والمكان إلى يوم الدين، قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا).
من الثابت في التاريخ أنه ما كاد ينتهي قرن من الزمن على بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حتى بلغت رسالته أقاصي الدنيا، وأسلمت أمم وشعوب كثيرة، فهوت أفئدتها من كل فج عميق إلى تلك الأرض التي يشع منها نور العقيدة الإسلامية، تلك الأرض الثرية بقداستها وفصاحة وبلاغة لسان أهلها.
وهكذا حرص المعتنقون لهذا الدين الجديد في كل بقاع العالم على حفظ القرءان الكريم بلسانه العربي الفصيح وأتقنوا فقهه وعلومه كما أتقنوا فقه وعلوم اللغة العربية، حتى صار منهم جهابذة تفانوا في خدمة العقيدة الإسلامية وعلوم العربية على حد سواء.
وبذلك تأصلت جاذبية اللسان العربي لدى العديد من الأمم والشعوب.
وكما يعلم الجميع أن أكثر من خمسة آلاف لغة يتكلمها سكان العالم المعاصر، وهي تختلف من حيث العمر والقوة والضعف والسعة والأصالة والهيمنة، قال تعالى : ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم ).
ولعل العلماء لا يترددون في الاعتراف بأن اللغة العربية من أعرق اللغات وأطولها عمرا، إن لم نقل هي أصل اللغات كما يرى المفكر المصري مصطفى محمود، وكما يشهد بذلك بعض المختصين في تاريخ اللغات وعلوم اللسانيات.
ومن الشاهد على قدمها أن مخطوطا مكتوبا باللغة العربية تم العثور عليه يعود إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد.
ولنا هنا أن نتساءل أين هي اللغات التي عاصرت العربية آنذاك، أو بالأحرى أين هي اللغات التي جاءت بعد العربية ..؟
نقول إنها اندثرت في المجمل والمتبقي منها لم يعد متداولا إلا من طرف بعض الدارسين والمختصين، مثل السوريانية والآرامية والهيروغليفة وكذا اللاتينية.
في حين أن اللغة العربية يتكلم بها الملايين من الناس يوميا، في خطاباتهم وعباداتهم.
ومما يميز اللغة العربية بالغنى والسعة، اشتمالها على أكثر من ستة عشر ألف جذر لغوي، وهي بذلك تتجاوز كل لغات العالم حتى المهيمن منها كالإنجليزية، وأنها تتميز بكثرة الكلمات والملفوظات، وعلى سبيل المثال فإن لمفردتي ” أسد” و” كلب” أكثر من سبعين مرادفا، وهذا ما يشح في اللغات المهيمنة.
كما أنها لغة طيعة كريمة الاشتقاق، فمثلا كلمة “جيد” لها العديد من المشتقات نذكر منها : نجد، جاد، جوّد، جودة، تجويد، جواد، إجادة…
في حين أن مقابل ” جيد” في اللغة الإنجليزية هو:
Good
والملاحظ أن هذه اللفظة ،من حيث التركيب، تكاد تحقق التقارب الجذري.
في حين أن الاشتقاق من هذه اللفظة لا يعطي إلا كلمة واحدة فقط :
Goodness
وتتميز اللغة العربية بالاختصار مع قوة الدلالة فمثلا نقول بالإنجليزية:
I SHALL NOT GO
وهي جملة تشمل أربع كلمات ، بينما يقابلها بالعربية كلمتان اثنتان فقط هما : لن / أذهب.
علاوة على ذلك فإن للحرف الواحد في لغتنا الساحرة قوة وجاذبية ودلالة ورمزية وجزالة في المعنى، فمثلا حرف الواو يكون للعطف وللمعية وللقسم وللحال…
بينما حروف اللغات الأخرى لا تكتسب معانيها إلا بالاقتران مع أحرف أخرى.
تبقى بعض هذه المميزات القليلة غيض من فيض، من مجمل الحسنات التي تطبع اللسان العربي الفصيح، ولهذا فإن من بين ما يحتم على الناطقين بالعربية والدارسين والمنظرين لها، صقل وتشذيب وتطوير صافي معجمها.
ختاما نقول إن قداسة اللغة العربية من قداسة القرآن الكريم ، الأمر الذي يلقي على عاتق الناطقين بلغة الضاد مسؤولية جسيمة تتجسد في حسن الاهتمام بها والغيرة عليها مقابل باقي اللغات.