رحل النهار أنشودة السياب الخالدة:
رحل النهار
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار
وجاست تنتظرين عودة سندباد من السفار
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود
هو لن يعود
أو ما علمت بأنه أسرته آلهة البحار
في قلعة سوداء في جزر من الدم والمحار
هو لن يعود
فلترحلي، هو لن يعود…[1]
تعرفت على الشاعر العراقي، بدر شاكر السياب في دراستي الثانوية المبكرة، عندما كنت أطالع قصائده المتميزة بسحرها، وإيقاعها العذب، ولا شك أن الأبيات الأولى من قصيدته: رحل النهار، ظلت عالقة في ذهني، ذلك هو السياب الذي جعلني أعتكف لأقرأ روائعه الخالدة، أولا لجمالية إيقاعها الأخاذ، وثانيا لروعة الأساطير التي وظفها، فقد كان السندباد في ذاكرة الإنسان العربي مرتبطا بالعجيب من الحكايات، وكانت الأسطورة ملاذا للإنسان المعاصر باعتبارها إرث ثقافي، وفكري، ينهل منه القارئ على العموم.
أحس السياب كغيره من شعراء جيله في نهاية الأربعينيات بخيبة الأمل في الواقع العربي الذي انتهى مشروعه الحضاري مع نكبة فلسطين، كما أحس بعدم طواعية النماذج الشعرية السائدة للتعبير عن المرحلة الجديدة التي بدأ الإنسان العربي يلج غمارها، ولذلك لم يعد الشعر بالنسبة إليه وإلى جيله من الرواد ترفا ذهنيا بقدر ما هو سلاح وإبداع يتغذى به جيله من الشعراء المناضلين.
وترجع العوامل التي بلورت شخصية السياب إلى أن بعضها قديم يرجع إلى فقدانه لحنان الأم في طفولته وشعوره بالحرمان وبعضها حديث مرتبط بتزايد إحساسه بدمامة خلقه، وبصراعه مع الفقر بعد أن طرد من وظيفته، وبالاضطهاد بعد صراعه مع الشيوعيين، وهو الذي نشأ في قرية جيكور، التي صارت في شعره مع نهرها بويب، رمزا لوطنه العراق، وفيها عاش الشاعر ملتذا بعالمه الطفولي البريء متشبعا بأقاصيص وأساطير القرويين البسطاء.
وقد عرفت حياته الشعرية أربع مراحل:
1- كان رومانسيا غنائيا.
2-صار واقعيا ثوريا.
3-“- أصبح قوميا.
4-أصبح يتغنى بذاته.
وخلال هذه المرحلة التي تغنى فيها بآلامه أثناء مرضه العضال، كان خروجه عن تقاليد الشعر القديم إيقاعا وأسلوبا سمة مميزة عنده، وساعده على ذلك نهوله من الأدب العربي والإنجليزي والروسي وقراءته الشعر العالمي والكتب الدينية في مختلف الثقافات، وخلف العديد من الدواوين جمعه في مجلدين كبيرين وله أجمل القصائد التي تميز بها من بين شعراء الشعر العربي الحديث.
تعتبر قصيدة بدر شاكر السياب “رحل النهار” من القصائد المتكاملة في الشعر العربي الحديث والتي استخدم فيها الشاعر أسطورة السندباد حيث قامت آلهة البحار بأسره في قلعة سوداء وجزر الدم والمحار، وهو أثر صعب التخلص منه، ومن هنا تنطلق آهاته فهو المجهض الآمال والأحوال، ولكنه في رحيله هذا لن يعود، فالمرأة التي تنتظره تعاني من قلق دائم حتى شاب شعرها وتقدم عمرها بفعل المعاناة والانتظار وأصبح قلبها عالم للدم والمحار، وحتى الأفق سيصبح غابات من السحب والرعود الثقيلة مما يزيد من قلقها وحزنها، فهو بهذا يحطم كيان المرأة وآمالها في اللقاء بدون رحمة من قسوته.
ومن هنا يبرز في القصيدة الكثير من مواطن الإعجاب من حيث الرؤية الشعرية والفكرية للشاعر، وكيفية تعبيره عن الخوف والألم والانتظار والموت ليصف حالته في رحلته، وحالة المرأة وإصرارها على الانتظار، هذه التجربة لها علاقة بحياته فهي تعبير عن ذاته ومشاعره وموقفه من الآخر ومن الزمان والمكان.
كان للقصيدة أيضا مواطن إعجاب من حيث الشكل والإيقاع والموسيقى.
وتبرز رؤيته الفكرية في رؤية وجودية تتأمل الحياة والموت وتعبر عن هموم الإنسان العربي في غربته عن وطنه، وفي معاناته في سفره. فالرمز هنا استقاه الشاعر من التراث العربي القديم باعتباره رمزا جماليا يستوحي جوهرها، وبهذا أصبح يعتبر القصيدة رؤية شاملة تعبر عن نظرة الشاعر إلى الحياة وتجربته مع الذات، والواقع فالقصيدة تقدم تجربة الذات الخاصة تجربة جماعية، وتغدو تجربة الوطن تجربة إنسانية.
[1]– مقتطف من قصيدة رحل النهار لبدر شاكر السياب، منزل الأقنان ط1 – 1963، ص/: 11،12، دار الملايين، بيروت.
الصورة نقلا عن دار الهلال