عندما ينزاح فن الكاريكاتير عن الضوابط الأخلاقية والقيم الإنسانية النبيلة، يتحول إلى آلية مدمرة، بل وإلى إرهاب فكري بريشة ناعمة، بحجم الدبابات والصواريخ العابرة للقارات.
ففي خطوة استفزازية دنيئة، عمدت صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية، المعروفة بعدائها الدفين للعرب والمسلمين، إلى استغلال مأساة إنسانية لتصريف سموم الكراهية التي تتحكم في خطها التحريري، حيث نشرت عبر منصتها الإليكترونية تويتر، كاريكاتيرا حول الزلزال المدمر في تركيا، الذي خلف الآلاف من الضحايا، معلقة على هذا الحدث المأساوي المؤلم، بالقول: «”لا داعي لإرسال دبابات». في إحالة دالة على زرع الفتن، والمس بمشاعر وأحاسيس عائلات المكلومين، التي ماتزال تحت وقع الصدمة، وتمرير خطاب الكراهية والحقد، والمواقف اللاإنسانية، المدانة سياسيا وأخلاقيا ودينيا.
ما حدث بتركيا وسوريا، كان من الممكن أن يحدث في أي رقعة من بقاع العالم، فهو ليس فعلا إنسانيا مدبرا، أو خطأ جسيما في محطة نووية، أو نتيجة حرب قذرة، وإنما مجرد حدث طبيعي، قُدّر له أن يضرب هذه الرقعة الجغرافية من العالم، في هذا التوقيت بالذات، ولم يكن ليستدعي هذا الاستغلال البشع، الذي كشف مرة أخرى، عن الوجه العنصري القاتم لهذا الجهاز الإعلامي، الذي طالما تجاوز كل الحدود والأعراف، متطاولا على العديد من المؤسسات والرموز السياسية والدينية، و أبرزها المس بالرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وما خلفه ذلك التطاول الجبان من موجات غضب في نفوس العرب والمسلمين، وما أعقبه من ردود فعل، فكرية وازنة للرد على ذلك الاستفزاز المجاني، وإن كان بعضها قد ذهب إلى حد الهجوم على مقر هذه الصحيفة، سنة 2015. وهو ما اعتبر آنذاك عملا إرهابيا، ورد فعل لبعض الجماعات المتطرفة، التي لا تمثل سوى نفسها، لأن أي فعل إرهابي مدان مهما كانت جنسيته أو عرقه أو لونه.
ويظهر من خلال هذا التسويق المجاني لحالة إنسانية، مدى الانزياح القصدي والموجه لصاحب الكاريكاتير، في سبيل خدمة خلفيات أخرى وتمرير رسالة ملغومة من خلال النص المرفق الذي لا يعكس تماما مضمون الكاريكاتير، حيث تتراءى سلسلة جبلية وبنايات مائلة وركام من الدمار وسيارة منقلبة، رسم عادي جدا، لعب فيه التحوير النصي المحمل بأبعاد سياسية ولا أخلاقية، دورا كبيرا في إثارة الانتباه، خصوصا وأنه يأتي في وقت جد حساس ودقيق، وفي هذه الظرفية الأليمة الصعبة التي تمر منها عائلات المكلومين، والشعبين الشقيقين، ومعهم كل شعوب العالم المحبة للسلام، والمؤمنة بالحق في الحياة، بكل أمان وطمأنينة، وتعايش إنساني، مهما اختلفت المرجعيات والعقائد والتوجهات السياسية.
وهذا النوع من الكاريكاتير الذي أصبح أكثر شيوعا، في العصر الحديث، غالبا ما يعمد إلى الاستعانة بقوة التعليق لإعطائه البعد المرتجى سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي، وتسخير هذه الآلية كأداة، لإثراء مادتهم الإعلامية، مستغلين في ذلك الانفتاح الحقوقي والسياسي، الذي أصبح يتيح هامشا فسيحا من حرية التعبير، نقول هامشا لأنه يبقى مقيدا بضوابط أخلاقية وسياسية، يجب أن يراعى فيها عدم المساس بسيادة الدول أو المس بالحياة الخاصة للأشخاص، أو النيل من الرموز والمقدسات. إلا أن هذا الهامش أصبح عرضة للانتهاك من بعض الأجهزة الإعلامية، التي تعتمد بشكل كبير على فن الكاريكاتير لتسويق منتوجاتها على أوسع نطاق، ومنها ما أصبح يفرد صفحات من هذا الفن، ومنها ما أصبح يكتسي طابع التخصص مثل حالة شارلي إيبدو، التي أدرجناها كنموذج سيء، للاتجار في المآسي الإنسانية والمس بالأعراض والرموز.
وإلى جانب هذا النوع من الكاريكاتير هناك أنواع كثيرة وازنة، تلتزم بالضوابط الأخلاقية والمهنية، حيث تعمل على توظيف هذا الفن في خدمة قضايا المجتمعات والناس، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو التربوي من خلال القصص المصورة، أو الرسومات الكاريكاتيرية ذات الطابع الانتقادي الساخر أو الفكاهي الذي يدخل البهجة والسرور في النفوس. فقد تختلف جميعها من حيث التوجه والهدف والتصنيف أيضا، إلا أنها ترتهن جميعها إلى مدى قدرتها على ابتكار صور وأشكال فنية جديدة، قادرة على خلق التفاعل المنشود مع المتلقي، بروح إبداعية مرحة، وبحمولة اجتماعية أو فكرية أو سياسية بمضامين جادة وهادفة تخدم قضايا المجتمعات والشعوب، وكل ما يشغل بال الرأي العام. وذلك ما يجعل من هذا الفن رسالة سامية، وآلية فاعلة ضمن بقية الأجناس الإعلامية والفنية، وإن كان يبدو أكثر صعوبة وحساسية، بالنظر إلى اعتماده على الاختزال والكثافة وتبليغ الرسالة بأقل العناصر الممكنة على مستوى الرسومات أو على مستوى التعليقات المرفقة التي قد لا تتجاوز أربع كلمات، ومنها ما قد يكون أبلغ من مقال من ألف كلمة.