أنا ذلك الطفل النحيف اليتيم المتسخ الذي يسكن القرية ويتجول فيها وحيدا، لا من يشفق علي أنا وإخوتي ، يعيش الجميع فرحته إلا نحن ومن مثلنا خصوصا في المناسبات الجميلة التي من المفروض أن نحظى برأفة ورحمة…
نعم أتجول أحيانا وحيدا بين ثنايا القرية وفي عمقها، أقراني يلعبون ببعض اللعب التي تشترى لهم من طرف أبائهم أو إخوانهم الكبار، كنت أتمنى لو يتركونني ألعب معهم، لكنهم عكس ذلك يرفضون بعد محاولات عدة وكثيرة. لا ألومهم بذلك، لأنني متسخ جدا ولم أصل بعد إلى المستوى الذي يجب أن ألعب مع من يمتلك وصاية الأب و الأخ الكبير.
أتجول أنا وإخوتي أحيانا في الحقول كالكتاكيت التي لا تدري إلى أين هي ذاهبة، وكنت حينها تمنيت لو كان أبي حاضرا، ليروي لنا قصص وحكايات الشرموطة العجيبة، حكايات لا تعرفها أمي، ولا أحد يروي لنا هذه الحكاية كما كان يفعل أبي ، أحيانا تنساب دموعي بشكل لا إرادي لا لشيء إلا لأنني أريد من يحكي لي حكاية أو قصة الشرموطة والتي أسمع بعض مقاطعها عند بعض النساء، مات أبي وفي عمري ست سنوات، إخوتي لازالوا صغارا، لم ألتحق بالمدرسة بعد لأنني أريد من يرافقني إلى المدرسة غير أمي.
في ربيعي السابع، التحقت بالمدرسة، وكانت أمي ترافقني إلى أن أقترب من باب المدرسة لتعود أدراجها، كانت تنعتني برجل الأسرة، وتتمنى أن أكبر وأكون لها معيلا وأحقق أشياء كثيرة، وحتى في حجرة الدرس لا أتحدث كثيرا، ولا أشارك في بناء درس كيفما كان…
انتبه المعلم لذلك، بعد أن قرأ من خلال بعض إيحاءات الوجه وتراتيله أنني لست بخير من جوانب عدة، وحاول أن يتقرب مني لفهم ما يجري، لعل وعسى أن يعالج المشكل والخروج من هذا النفق المسدود، وذات يوم كانت لنا حصة في الصباح، وأنا كعادتي كنت منكمشا في ثيابي وانا جالس أنتظر وقت الخروج وكأن رصاصة أصابت قلبي الصغير لا يراها الأستاذ، وبعد خروجنا كان يبحث عن رجل معروف في القرية برزانته وصدقه وسلوكه الحسن، والكل يشهد على ذلك، التقى به ليحدثه عني، فأعطى له كل التفاصيل بدقة.
ذهبت إلى كوخنا، وذهب الجميع إلى دياره ، كنت ألعب مع إخوتي حتى انتهى النهار بتفاصيله المملة، دخلنا إلى المنزل، والشمعة تضيء في الركن المعهود، بعد ساعة بالتمام والكمال دق الباب مرتين ونهض أخي، فوجد معلم القرية هو الطارق، كان ينادي أمي ليتكلم معها، وبعد حين خرجت أمي وبعد أن تحدث معها عني محاولا رفع معنوياتي لها، فأعطى لها مجموعة من الحلويات ومحفظة وما تيسر من الملابس الجديدة، فرحت أمي وفرحنا جميعا.
دعته ليتناول العشاء، لكنه لا يريد أن يضايقنا في كسرة خبز وكوب شاي، حملت أمي تلك الأشياء التي لم نعتقد أننا سنراها في يوم من الأيام، كانت تلك الليلة هي الأفضل في التاريخ وفي حياتنا البريئة تلك البعيدة عن حسابات الواقع الضيقة، لبست الملابس والحذاء الجديدين، بشدة الفرح أقفلت الشهية لتناول أي شيء، كانت أمي تدعونا لذلك، لكن همنا وحلمنا هو أن نلبس مثلما يلبس الأطفال الصغار، كنت أرغب في أن يلوح الصباح بسرعة فائقة.
وفي الصباح الباكر استيقظت أمي وأعدت لنا فطورا مميزا ذلك الصباح ، وتناولته بسرعة البرق، وانتابتني رغبة جامعة بأن أجول في القرية بتلك الملابس، وقبل وفي صمت تام:
– أخذتني أمي من غفوتي وهي تردد: هذه خصال المعلمين ،وهكذا يكون الرجال الأحرار.