مما لا جدال فيه أن حنكة الرجل وتوهّج بصيرته ، إنما يعكسهما النضال المبكر من أجل تدارك الأسمى والأفضل ونيل الرمزية الخاصة واللائقة بين النبلاء وأهل الصفوة والعظماء من المُجايلين، إن رياء أو تمرّدا على حياة قاسية مزرية ومنحطة أو ثأرا للإنسانية الرازحة تحت نير التعاليم البالية والقيود المتعارف عليها ، كضرب من نزعة واعية صوب المخوّل لبناء شخصية قوية وجديدة ،تتوغّل في مستقبلها تدريجيا،بعد أن تفلح ولو بشكل نسبي من التنصل والانسلاخ عن براثن الذاكرة المعطلة والمتهرئة.
كذلك هو حبيب أوس بن الحارث الطائي المكنى بأبي تمام (180- 228 هـ \ 796 – 843 م) في حيز زمني اكتسحته العصامية القحة و التكريس للأيديولوجية في انحيازها للنمط المجتمعي الأرستقراطي المتقوقع على روح الملاحم وديباج لحظات الانتشاء بالنصر على الأعادي والظفر وحجم الغنائم جراء خوض المعارك والفتوحات.
مفاهيميا، تمحورت نزعته الشعرية المتفرّدة ،عبر تصيّد المعاني المبتكرة المزدانة بغلاف عذريتها فضلا عن تأمم معجم ضاجّ بجماليات الأغراض الغرائبية و التشرّب من كلاسيكية مطبوعة بالمنطق ومراعاة سمات المناخ السياسي في كليته وعلى امتداد الخارطة العربية مثلما يرسم حدودها و يملي بنودها انتقال حضاري جيو سسيو ثقافي مغاير تماما بصم العصر العباسي إجمالا.
كشاهد خالد على حقبة تاريخية لوثت صفحاتها الأكثر إشراقا، فلسفة السّياف والجلاد الغليظ والفض حتى مع ذاته ونسله إزاء ما قد يشكل تهديدا أو يمسّ ويطعن في قدسية الخلافة و يشوه كاريزما الزعامة والحكم.
قطع الجهبذ أبو تمام أشواطا شائكة ودامية ،منطلقا من الشام منبته ،مرورا بمحطات كثيرة أفاد من مخزونها المعرفي والفني والأدبي،كمصر التي امتهن فيها السقاية تحت هاجس الكد وضرورة تحصيل لقمة العيش بنبيذ الجلد وعرق الجبين،فالجزيرة وأرمينيا وأذربيجان والعراق وخراسان .
اشتهر الرجل بأسلوبه الطاعن بلذة المزاوجة بين الموضوعات البيانية والأدبيات المنتصرة لخطاب الحماسة .
كما عاش طورا من التكسب قبل الالتحاق بالمعتصم ونيل الحظوة عنده،حسب المصادر الموثوق بها في هذا الباب والمُقارِبة لحياة وشعر صاحبنا ، بوصف القصيدة ذات مطلع:السيف أصدق إنباء من الكتب/في حدّه الحد بين الجدّ واللعب،و المذيلة بها طقوس عرس فتح عمّورية ، خير ما يدلّل على فحوى طرحنا هذا والذي اقتضبنا له هذه الورقة وأفردنا له هذه العجالة.
زد عليه مرامنا من العنونة ، والفائض عليها من حقول ضمنية إيحائية،تثبت إلى أي حدّ استطاعت القصيدة العربية العمودية ،ارتداء العنفوان مرتين إبان زمن التصالح مع عوالم الفلسفة والفن والأدب على الرغم من دموية لغة السياسة وقتذاك.مرة حين انتفضت العصامية القحة والموهبة الحقيقية لدى شاعرنا ليتم فيما بعد صقلها وتطويرها عبر الممارسة المستدامة وثراء التجارب والخبرات الحياتية،و ثانية لمّا أبان عن طاقات ذهنية خارقة من خلال كمّ القراءات الاستباقية لحركية المشهد السياسي القائم ، وإجادة قراءة أفكار الأمراء والخلفاء والقادة العظام.
الصورة نقلا عن جريدة الراية
بقلم أحمد الشيخاوي