يتناول الباحث الجزائري د.هواري غزالي في كتابه “مدخل إلى الأدب الرمزي الخيميائيّ”، جوانب من تجربة الشاعر العُماني سيف الرحبي بالدراسة والتحليل، محاولًا استخلاص النماذج العليا عند الشاعر في مجال الأدب الرمزي.
وتكشف العناوين التي توزعت على صفحات الكتاب الصادر حديثًا عن “الآن ناشرون وموزعون” بالأردن، أن الباحث أراد من كتابه نقلَ “الكيمياء”، من عالمها التِّقني والطَّبيعي والرُّوحي، إلى عالمها الرَّمزي، والبحث عن إعطاء الشِّعر المعاصر بعدًا نقديًّا جديدًا، وفتح الباب أمام من قراءة سيكولوجيَّة للشاعر عبر واسطةٍ نفسيَّة مبنيَّةٍ على طروحات عالم النَّفس كارل يونغ.
ويقول غزالي، الذي يعمل أستاذًا محاضرًا في قسم الدراسات العربيَّة بجامعة باريس، إن سيف الرحبي هو “الوحيد الذي بقي من سلالة شعراء الجيل النَّاصع”، لما تميّز به من صوت متفرد ورؤية شعرية خالصة. ويضيف أن هذا الشاعر عدّ نفسَه في غير مناسبة معبّرًا من “جيل الانكسار”، وهو ما يبرز في قصائده ومقالاته وحواراته المترعة بالآلام والانكسارات والملونة بالسوداوية، ذلك أن العالم العربي يعيش مرحلة يصفها الشَّاعر بـ”الخطرة”، إذ ينعدم الأمل وتُسَدّ الآفاق. ومن نصوصه في هذا السياق:
“طفلةٌ تركضُ حافيةً على الشاطئ تصطدمُ بالسَّواري، بالألواحِ / (…) من أينَ بزغَتْ هذهِ الطِّفلةُ الشعثاءَ/ الجميلة؟ / هل لَفَظَها البحرُ / أمِ انفجَرَتْ من حُلُمٍ عنيفٍ لأحدِ الصيادينَ /(…) الصبيّةُ تركضُ في العراءِ/ ترتَطِمُ بسماكةِ الفراغِ / فتسقطُ جثةً هامدةً”.
ويرى غزالي أنه لا يمكن لقارئٍ باللغة العربية وهو يتصفَّح كتابات سيف الرَّحبي أن يواصل القراءة دون أن تلفت انتباهه مواصفات الفضاء العُماني المدهشة. فطريقة الشاعر في توصيف فراغ الأقاصي بما فيها من كائنات متخفيَّة وظاهرة تجعل القارئ يمتلئ بخيال يدرك أنه ليس له به سبيل على اكتشاف هذا العالم الأسطوري والخرافي إلا من خلال سيف الرَّحبي. ومن ذلك:
“حلَّقَ النسرُ دهرًا بين السماواتِ والأنجم والكواكب، حتى لامسَ (كما كان يحلم)، بعد ابتلاءاتٍ ومِحنٍ، بجناحهِ السَّماءَ المتلألِئةَ بالملائكة والرَّغباتِ التي كان مخطوفًا بسحرِ نُورها المُدهش. وحين عاد خاليَ الوِفاض خائبًا من رحلتِهِ الشَّاسِعَة، أدركَ أنَّ التَّحليقَ والسِّباحةَ في الفَضاءِ اللانهائي، هو الجَمَالُ والحُلمُ والغايةُ بعد ارتطامِهِ الأخير”.
ويؤكد الباحث على أن اجتماع الشِّعر في سيف الرَّحبي بإدارته مجلة “نزوى”، جعله ضمن سياقٍ متفرد اجتمع فيه سهيل إدريس صاحب مجلة “الآداب” اللُّبنانية، ومحمود درويش صاحب مجلة “الكرمل” الفلسطينية، وأدونيس صاحب مجلة “مواقف”. ويضيف: “امتدت قامة سيف الرحبي وارتفعت في وقت انهارت فيه المقوِّمات الثَّقافية للعالم العربي بالموازاة مع التَّدمير الذي طال الإنسان جرّاء الحروب والثَّورات”.
ويرى غزالي أن تجربة الرحبي في مجلة “نزوى” عززت حضور سلطنة عُمان في الفضاء الثقافي العربي والعالمي، فـ”فرضت مسقط نفسها كعاصمة أدبية تضج بالأفكار، والترجمات، والنصوص الجديدة، والمقالات النَّقدية والتَّاريخيَّة، ومختلف المناهج التي بفضلها يُقاربُ الكتَّابُ الظواهر الأدبيَّة على اختلاف أنماطها وأقاليمها”.
ويقول إن مَن ينظر في شعر سيف الرحبي، سيكتشف إنسانًا ينظر إلى العالم بعين متذمِّرةٍ، لكن هذه العين تصبح مبتهجَةً عندما تنظر بنظارات مجلة “نزوى”، حيث تمنح النُّور إلى العالم بتعددية موضوعاتها واختلاف الرؤى فيها والفنون والثَّقافات والعوالم، لكأنَّما سيف الرحبي -بحسب تعبيره- شخصان؛ أحدهما شاعر متشائم، وثانيهما رئيس تحرير مجلة متفائل.
ويشير إلى انحياز سيف الرحبي للطبيعة البكر، مختارًا من كتاباته في هذا السياق: “أنظر إلى صخرة ضخمة بحجم جبل الفحل في عُمان، لكنها تختلف عن الجبل العتيد في كونها مغطَّاة بالأشجار والنَّباتات الاستوائية بالكامل حتى لا تبدو جزيرة صغيرة وسط البحر الأصفر المتلاطم. / تمنَّيت لو بين ليلة وأخرى، يصبح جبل الفحل على المنوال نفسه مُحتلًا من فيالق الطَّبيعة الخصبة الخضراء، رغم تعوّدي دكنتَهُ الصَّخرية التي استعارها من طبيعة الأزل وألوانه الحادَّة التي تكدّست على أديمه الأزمان والأجيال”.
ويوضح غزالي أن شفافية فكر سيف الرَّحبي التي تكشف عن كُنْه خاطره وطبيعة سريرته أسهمت إلى حدٍّ بعيد في رسم خريطة شعرية خاصة بسلطنة عُمان وحدها وخريطة أخرى خاصَّةٍ بجيل مخضرم، تتمدّد أطرافهما إلى كون الإنسانية الفسيح. مؤكدًا على أن تجربة الرحبي نقلت إلى العالم الشعري لونًا جديدًا، وهي تجربة تعي جيدًا أن إعطاء لون جديد للشِّعر يحمل في طيَّاته رمز إعطاء الحياة للوجود والإسهام في صنعه كما يفعل فحول شعراء العالم.
ووفقًا لما جاء على الغلاف الأخير، ترتكز نظرية الكتاب على أسس ثلاثة: تراث الخيمياء العربي، واللاوعي الجماعي من خلال دراسات كارل يونغ للخيمياء، واستخلاص هاتين التجربتين من خلال النظر في الشعر المعاصر عبر دراسة شعر سيف الرحبي.
ونقرأ على الغلاف أيضًا: “يعدّ سيف الرّحبي أكثر الشعراء المعاصرين استلهامًا للّاوعي الجماعي من خلال عودته إلى الأصول الأولى للإنسانيّة باحثًا عن مكانة صافية للوجود وكائناته البريئة التي ما لبثت تصرخ”.