تفاصيل صغيرة تنسج خيوطا دقيقة، ثم أحلاما كبيرة في عالم متشابك، متباين تاريخيا وجغرافيا وعقائديا وثقافيا وسياسيا. تفاصيل صغيرة قد تغير لغة الحوار، وتعبد الطريق نحو نقطة وصول تتشارك فيها الإنسانية جمعاء و”حق العيش” بقيم جديدة تنتصر للحب، وتؤلف بين قلوب الجماهير، وتوحد الشعوب على أرض خضراء معشوشبة، تحت سماء واحدة، مؤطرة بقواعد وقوانين لعب متفق عليها سلفا، وإن كانت محكومة بأنظمة أفقية، تمتلك فيها الدول النافذة آلة التحكم عن بعد، تجنبا لأي انفلات، أو اقتحام للمنطقة المكهربة، وتجاوز الحدود المسموح بها، والحد بالتالي من أي اختراق لتلك المنطقة الحساسة التي تخضع لشروط دقيقة ومحكمة تتجاوز حدود معترك التباري واللعب النظيف، بخلفيات وآليات أخرى تجعل بالمقابل تفاصيل صغيرة تعصف بأحلام كبيرة، وتكشف عن الوجه الآخر للعبة، الذي يمكن اختزاله في محاولة تسقيف الأحلام، ووضع كوابح صارمة، وتشويرات موجهة لتحديد السرعة تتماشى مع التوجه العام، وخدمة مصالح وسياسات الدول النافذة.
غير أن كل ذلك لا يمكن أن يمنع من مواصلة الحلم المغربي العربي الإفريقي، بنفس القوة والإرادة والعزم، الذي جسده أسود الأطلس على أرض الواقع، بعدما تمكنوا من تحطيم جزء كبير ومهم من تلك القلاع، التي شاء بناتها أن لا يتجاوز فيها الإفريقي الطابق الأرضي. فكانت قوة الإرادة مصعدا صلبا، قوامه الثقة في النفس والعمل الجاد، للارتقاء بثبات نحو الطوابق العليا وبلوغ القمة. وهذا ما تأكد في مونديال قطر، على المستوى الرياضي والثقافي والتاريخي، بمرجعياته الهوياتية والحضارية.
وحين يكون الحوار مع الآخر مبنيا على الندية والتكافؤ، فإن حظوظ النجاح تكون وافرة، ويتحول مع قوة الاعتقاد في ذلك إلى محرك أساس لمحو تلك الصور النمطية المترسخة في عقلية الغرب تجاه الشرق. ولا أدل على ذلك من مستوى الذهول في أوساط الجماهير الغربية، وتفاعلها التلقائي مع المظاهر الاحتفالية العربية، وانبهارها بحسن التنظيم، وحفاوة الاستقبال، ورقي القيم العربية التي خلخلت لديهم العديد من تلك المفاهيم والأفكار المسبقة، وجعلتهم يندمجون مع بقية الأجناس والثقافات المتعددة، وتذويب هوة الاختلاف، وفسح المجال أمام إمكانية تحقيق الحلم الإنساني المشترك، القائم على الحب والتعايش واحترام الآخر.
وقد تعزز هذا المكتسب بالاهتمام البالغ الذي حظي به الفريق الوطني المغربي الذي تصدر صفحات الإعلام الدولي، ومحطاته الواسعة الانتشار، بحكم ما بصم عليه من مستوى مبهر ليس على مستوى التنافس الميداني وقهر أعتى الفرق، فحسب، وإنما على مستوى الثقة والإيمان بقدراته وإمكانياته وكفاءته. وهذا ما شكل عنصر قوة، لتحقيق هذا المنجز التاريخي.
إن تأهل الفريق المغربي للمربع الذهبي، كأول فريق عربي مسلم وإفريقي، كان بمثابة رسالة بالغة الأهمية للعالم على مستوى توحيد الشعوب وسماحتها وتحليها بالقيم والمبادئ الإنسانية، وسمو الحضارة العربية الإسلامية، وتصحيح للمفاهيم الخاطئة التي بناها الغرب على الشرق الإسلامي من خلال بعض إعلامه المتصهين ومستشرقيه وكتابه، واصفا إياه بجميع الأوصاف، والنعوت كبربري متوحش أو إرهابي، حيث كشفت تظاهرة كأس العالم عن الوجه الحقيقي الذي يجب أن يرى. وهنا نستحضر نظرية “هنري جيمس ” في علم فلسفة الاجتماع لعملية الحوار، يقول :
إذا التقى شخصان (ألف وباء)، فإن عددهما يكون ستة:
- الشخص :
- كما يرى نفسه. ٢- كما يراه الآخر . ٣- كما هو حقيقة وواقعا.
- وكذلك الآخر بالنسبة للشخص.
يجري الحوار بين هذه الشخصيات الست في وقت واحد:
- يكون حوار طرشان عندما يجري بين الشخصين كما يرى كل منهما الآخر.
- يكون صداميا عندما يجري بين الشخصين كما يرى احدهما الآخر .
- يكون صادقا وحقيقيا ومخلصا عندما يجري بين الشخصين الحقيقين.”
الحوار مع الغرب الآليات والخطط” عبد محمد بركو ص : 28.
فأي حوار مبني على أفكار ومسلمات مسبقة سيكون حتما صداميا وغير مجدِ، ومآله الفشل، في غياب فكر شمولي عقلاني متزن ينطلق من المصالحة مع الذات والإلمام بثقافة الآخر، وليس بناء على خلفيات وأفكار مسبقة تقفز توا إلى تحديد الوجهة والحسم في النتيجة، دونما الإمعان في تفاصيل الحوار، ومدى قدرة الطرفين على الاقتناع والإقناع، بكل موضوعية وتجرد. فالواحد المتعدد المتمكن من آلياته وأدواته، وإيمانه يعرف كيف يفرق بين الثوابت والمتغيرات، ويتجنب بالتالي النظرة الإقصائية للآخر، والرهان بالتالي على كسب المقابلة قبل لعبها.
فعقدة التفوق التي ما زالت مترسخة في التفكير الغربي، لا يمكن تفكيكها إلا بالعمل والثقة في إمكانياتنا، وتدفعنا كعرب وكمسلمين وكأفارقة، إلى تحقيق من المزيد من المكاسب، واستثمار هذا النجاح بشكل مثمر في مختلف المجالات، والإبقاء على باب الحوار مفتوحا مع بقية الثقافات، التي تفاعلت بشكل لافت مع بعض مقومات الحضارة العربية.
وهكذا الحال بالنسبة لهذه التظاهرة الكروية العالمية التي كشفت عن الوجه الحقيقي لكل فريق من خلال انتمائه الفكري والعقائدي والجغرافي، وتموقعه في الخريطة الدولية سياسيا واقتصاديا، ودرجات تأثيره في المحافل الأممية. والتدخل بالتالي بطريقة، أو بأخرى في ترسيم حدود اللعبة، لما لديها من تأثير قوي على الجماهير، وانعكاسات مباشرة أو غير مباشرة على نفسيتها، وهذا ما ذهب إليه ”غوستاف لوبون” GUSTTAVE LE BON” في كتابه «سيكولوجية الجماهير». الذي اعتبر كمرجعية في هذا الاتجاه لفهم نفسيات الجماهير، بل ومرجعية مهمة لدى الحكام والقادة في التحكم وتوجيه الجماهير نحو الأهداف المتوخاة، في أي استحقاق، مما يقوي من حدة المخاوف لدى الجهات النافدة التي تعي جيدا دور سلطة الجماهير في التغيير، وجعلها حريصة على التدخل كلما شعرت بانزياح ما على مستوى الاستقطاب الجماهيري.
وهذا يحيلنا بالمقابل على سلطة الجماهير وخطاب الكراهية، الذي ساهم بشكل كبير في تعميق هوة التباعد بين الشعوب، وخندقة العرب والمسلمين والأفارقة في خانة العنف، والإرهاب، والتزمت الفكري والمذهبي والعقائدي، وتسويق كل ذلك على نطاق واسع…
فمتى سيعي العالم الغربي أن الوقت قد حان لقول الحقيقة، وإزاحة كل زيف لقنوه لشعوبهم عن الشرق، الذي أثبت لهم من خلال مونديال قطر، ما يتحلى به من انفتاح وتسامح ورقي؟
إلى متى سيظل الشرق تابعا ومسودا للغرب؟
إلى متى ستظل الشعوب العربية والاسلامية متفككة، و ما يجمعها أكثر مما يفرقها؟
متى تعي الدول الغربية أن الهوية والانتماء للبلد الأم لا يزاح بهجرة أو حق التجنس؟
متى تعي الإنسانية أن للجميع حق العيش الكريم على هذه الأرض؟
إلى أي حد يتجاوز المسؤولون العرب والأفارقة عقدة الغرب ويضعون الثقة في كفاءات أبناء الوطن لما لهم من مهارات وقدرات؟
تساؤلات واستفهامات جديرة بالتأمل، كمدخل لإعادة ترتيب الأوراق، على أسس مغايرة، كفيلة بإعادة الاعتبار للمجد العربي وتوهجه، في مختلف المجالات، كي يتبوأ المكانة اللائقة بتاريخه وحاضره ومستقبله، في الخريطة الدولية.