“لغة الموت والبياض” المدني بورخيس

إن المسافات الإبداعية التي يرسمها الكاتب الأستاذ محمد آيت علو في نصوصه المنفلتة، تفتح أمام المتلقي بابا، بل أبوابا لقلب الريح، وتقحمه بشكل منفلت في مواجهة ريح الموت، حيث إن عليه أن يقطع هذه المسافات اللغوية، قصد الإمساك بخيط تلك النصوص ولن يتأتي له ذلك إلا بفك تلك الرموز المكتوبة، وكشف الدلالات العميقة في سواد الكتابة، والدلالات المغيبة في بياضها، لأنها مسافات نصية، يتداخل فيها الشعري والصوفي، ويمتزج فيها الخيالي بالواقعي، وتتعرى فيها الذات من عقدها، وكبريائها لتفصح عن صراعاتها، ومشاعرها وانفعالاتها، إنها مسافات ملغومة حقا بتشكيلها، ولغتها وشرعيتها وواقعيتها وخيالها وصوفيتها. فما هي دلالات البياض في المؤلف؟ ولماذا تحضرتيمة الموت بشكل ملفت في هذه المسافات الإبداعية؟

  1. لغة الموت:

و نحن نفتح باب المؤلف، ونقلب صفحاته، ونقرأ مسـافـاته اللغوية، مسـافـة مسـافـة، ونفتض بكارة الكلمات والأشياء، يثيرنا ذلك الحضورالمكثف للغة الموت، مجسدا في عـدة مظاهر:

أولها مظهرالموت ذاته، حيث يتحدث الكاتب عن “قاعة الموت”

  • تراه سافر إليها فمات؟…
  • تراه الحب ولج قاعة الموت الأبدي؟…

إن الحديث عن موت الليل، وموت الحب ، يجعلنا نتساءل عن دلالة هذا الموت؟ هل هو الموت المألوف(مفارقة الروح بالجسد) أم هو موت آخر؟ يبدو أن الموت يقصد به الموت المعنوي المجرد والفكري (دون إغفال حضور المعنى العادي) إنه موت الذات والإحساس/موت السلام و الهدوء، إنه موت الذات وذوبانها في زحمة الواقع.

وهذا الموت ربما يكون أشد ألما وأفظع أثرا من غيره، وهذا ما يعززه موت الحلم، وموت العرافة صاحبة التفسير، فبموتها يموت الأمل و يعود التشاؤم واليأس ليملأ الذات ويسود مساحتها البيضاء.

و تحضر كلمة “القبور” بكثرة أيضا، والقبر مسكن الميت، فعندما يصبح الناس قبورا متنقلة وخائفة مثلما تماثيل منتصبة، دونما نبض أو حركة، فهذا تأكيد لتلك الدلالة المجردة للموت، موت الروح رغم حركية الجسد، موت الفكر والشعور، رغم حياة الذات الإنسانية، وعندما يصيرالموتى بلا عدد وسط ظلام المقبرة، تتحدث إحدى المسافات عن وجود قبرمضيء، ربما جسد دلالة الحب والتفاؤل والنور. و تصل تجربة الموت ذروتها عند تصوير مشهد جنائزي، بما فيه من حمل النعش، ووضعه في القبر، وتلاوة القرآن والدعاء، والبكاء  والتأبين…وهنا تتحدث المسافة عن الحياة في الموت:”لكنك لن تموت أبدا، ما دمت ستعيش للحب… قلبك النابض بالصدق والإشراق وحب الناس لن يتوقف وسيدق مع دقات كثيرة للأبد…” و ثاني هذه المظاهر، هوالحلم، فهوموت أيضا أو مرتبط به، إذ أنه ابتعاد عن الواقع وتفكير في عالم آخر. والحلم في المؤلف، يجسد الفشل/يعمق اليأس، إنه حلم المعاناة:”والآن أيتها العرافة خبريني بما لم أستطع عليه صبرا، إني أرى في الحلم واليقظة وفي كل مرة، وأسمع رجع ذكرى، الصوت نفسه، رنة جرس كنائسي نحيب/  عويل…. وأراني مصلوبا تأكل الطيرمن فوق رأسي… وأرى عن يميني مجرى هائجا وأمواج كالصخر وأجسادا من بقايا طوفان نوح… وعن يساري رجالا ينتحون من الحجر قبورا، ويموتون…لكن العرافة ماتت بعدئذ …”.بين الحلم غيرالمتحقق، وبين موت العرافة، يصيرالإنسان بلا صدى، تجمد أفكاره، وتتحول تصوراته إلى هياكل بلا روح، ويتكررالحلم شظايا في عينه.

و ثالث هذه المظاهرهو مظهرالتيه والنسيان:

  • يزرعنا التيه في غياهب النسيان.
  • من قال أن العيون تدري سرالبكاء؟من قال بأن تلك العيون سترسم بالتيه مستقبلا بلا قسمات مثل حاضرنا السكران…
  • هاأنـذا مفقود مولود ، مولود مفقود أبحث عن نفسي قليـلا، فلاأجدها إلا ناقصة مشوهة، مجزأة، أتلاشى في ظلام السواد، وفي شفاف البياض، وأضيع في غمرة الوحدة القاتلة….

    تتعدد الصور، والموت واحد كما قال الشاعر، فلماذا هذا الحضورالمكثف لتيـمــة الموت؟

يجسد المؤلف، المقولة الشهيرة:الكتابة موت، تتشظى ذات الكاتب، وتتوزع سواد الكتابة في كل سطريكتبه المبدع، يحس معه بأن ذاته تذوب رويدا رويدا، وما إن ينتهي من كتابة نصوصه المنفلتة، حتى يموت(كما يقول رولان بارت).إضافة إلى ذلـك فـإن الذات هي دائما في صراع مع الواقع، ومع الآخر، تنفـعل وتـتفاعـل، تحـلـم، وتتصور، لكنها تصدم بتناقض العالم وقسوته، وأنانية الآخروسطوته، فتنعزل وتتوارى، فتصبح عزلتها موتا ونسيانا…

  1. لغة البياض:

إن عملية الكتابة،ليست مجرد تنظيم كلمات على أسطرأفقية موازية، بل هي قبل كل شيء توزيع لبياض وسواد على مسند هو في عموم الحالات الورقة البيضاء.

وانطلاقا من هذا المعطى، فإن مؤلف “باب لقلب الريح” يوظف تشكيلا لغويا، يتمثل في تقنية البياض أو فراغات الكتابة، وإذا قد سكت عمدا عن مجموعة من الدلالات، وملأ مؤلفه بياضات عدة، فإن مهمة القارئ أن يملأها بما يراه مناسبا.

      وبذلك يكون فاعلا في عملية الإبداع الأدبي، وإذا سكت هو الآخر، فإنه سيضيف بياض القراءة إلى بياض الكتابة، ومن ثم فإن السؤال الأكثر إلحاحا هو:ما دلالة هذا البياض؟ وما علاقته بالمساحات المكتوبة؟

  • أولا هي بياضات التحفيز/الإستفزاز، لأنها تدخل المتلقي في عوالم من التأويل  والتفسيروالإفتراض، وتقلق ذاكرته / فكره، وتوقظ ذهنه من غفلة المعنى الجاهز و لدلالة القاطعة، إنها تستفزالقارئ وتحفزه على القراءة باهتمام وجدية.
    • ثانيا هي بياضات الموت، لأن السكوت عن الكلام المباح، يعد موتا معنويا للمؤلف، كما أنها تنم عن الحضورالطاغي لتيمة الموت في المساحات السوداء(المكتوبة)، لهذا فالبياض يشكل صورة ومظهرآخرين لهذه التيمة، إنه الإستسلام والعجزوالفشل في التعبيرعن الذات.

ثالثا هي بياضات الحلم، فالحلم يكون أبيض غالبا، جميلا يكون، لكنه في المؤلف أسود في أسود، فهل بياض الكتابة هوحلم ثان أو حلم مضاد أوحلم بديل، فالكاتب، وهو يتوقف عن الكتابة في هذه الفراغات، ينصرف عن الواقع إلى الخيال، ويعانق الحلم بعيدا عن الحقيقة:

“- و سيطول بي سهري و يعود بي إشراق فألي، أنحت الخطط على حجمي و مقاسي…أجل! سنبحرفي كلينا، نغوص، نغوص، نغوص……….. “

  • رابعا هي بياضات الحياة، ومن ثم يكون بياض الكتابة نقيضا لسوادها، فالموت ينتهي بانتهاء الكلمات، لتبدأ الحياة، ويعود الأمل ويبقى التفاؤل حاضرا، رغم مأساوية الواقع، ومعاناة الذات.بياض النصوص، إذن رغبة في العودة إلى الحياة / الوجود، والإحتجاج على الموت، والفشل والنسيان.

  خاتمة:

   تجربة “باب لقلب الريح” إذن، هي تجربة تقوم على تخيل مسافة الحلم، لتسقط في نص الموت، وانفلات الحياة، وبياض الكتابة، إنها تجربة المأساة، والصراع النفسي بين الأمل واليأس، بين الحلم والحقيقة، بين الحياة والموت، بين السواد والبياض،…تجربة إنسان بلا صدى، يفكر فتبقى أفكاره جامدة، يتصور، يحلم، تصوراته، أحلامه هياكل بلا روح….

       ترى هل استطاع الكاتب فعلا أن يفتح بابا لقلب الريح…؟ !!

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي

د.حسن بوعجب| المغرب             لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات