*النقطة في المفهوم الصوفي
النقطة لدى الصوفية هي محلُّ سكون مدِّ الوجود المتقلب، بعد ظهوره في أصلاب الحدود والقيود والعدد والمعدود، وهي مركز الاستواء الذي فيه حجابية الحروف بتنوع تعريجاتها،وهي كذلك الإنسان باعتباره مركز الكون،فهي هو وهو هي ،فسائر النقط في سائر البدايات والأوساط والغازات تنتهي من نقطة الأحدية إلى نقطة السويداء المحمدية،إذ منتهى كل شيء في الأحدية ما هو إلا نقطة خفية معنويةتشمل الحقائق كلها.وبما أن الإنسان حرف وجودي،فإن حروف الهجاء الدالة على مراتب الوجود قد جاءت النقطة لتكون سرها،وسبب ما يخطر في الوجود ظاهرا وباطنا.فوجودها وجود مفردٌ دالٌّ على آنية أنا، وآنية أنت، وهوية هو ،مشيرٌ إلى وحدة المحقق عند سلب الإرادة ونيل المراد ، وحذف مسافة المواجد ،وإلى الفيض الأول المسمى بالعقل الفعال.
إنها مدار جميع دوائر الكون كله ، منها تنشأ كل الدائر لكونها نونَ الإحاطة الإلهية عينها ، وما ثم غيرها،معناها لا تحويه الألفاظ ،إذا ذُكرت عني بها غيب الذات المسماة بوحدة الشهود. أصل كل الحروف منها، وإنما جاء الكثرة من انبساطها.فهي أصل كل خط،وما الخط إلا نقط مجتمعة،ومن ثم لا غنى للخط عن النقطة،ولا للنقطة عن الخط،وكل ما يقع البصر عليه فهو نقطة بين نقطتين – حسب الحلاج –
وأول ما تجلت به النقطة وظهرت به ظهوراً يقتضي التعريف : هو وجود الألف . فجاء على صورة التنزيه أقرب منه للتشبيه ، ليكون موجوداً في كل الحروف بصفته مبايناً لها بحقيقته .ولهذا لا يقع عليها حد التعريف كما يقع على غيرها من الحروف . فهي منزهة عن كل ما يوجد في الحرف من طول وقصر واحديداب . فلا تعقل بما يعقل به الحرف رسماً ولفظاً . فبينونتها من الحرف معقولة وكينونتها فيه مجهولة . فهي عند ابن ع بي تعتبر الحجاب على النور الذي رشه الخالق على الخلق،ولا تبدأ حياة ولا فعل إلا بها،ولذا كانت في باء البدء التي هي باء البسملة،بوصفها النقطة الوجودية التي بتعينهاتعينت الحروف الإلهية والكونية،وتعيَّن الظل الذي مده الله تعالى حين انبسطت.لا تةجد الأسماء إلا بعد وجودها،بالتصريف تخفيها،وبالتشريف تجليها.
فهي الفيض الأول المسمى بالعقل الفعال،هي الحضرة المحمدية،ونور الأنوار، وسر الأسرار.عليها مدار الدوائر،ومنها يتكون كل دائر،تعد عين الإحاطة الإلهية،وعين الجميع،إذ ما ثم غيرها،معناها لا تحيط به الألفاظ،لا يقصد بها إذا ذكرت إلا غيب الذات المقدسة المسماة بوحدة الشهود.وكما من نفس هذه الذات انبثق الكون وما فيه من مكونات،فكذلك الحروف فإنها انبثقت من نقطة واحدة،إذ من انبساطها جاءت الكثرة فمن رآها أو رأى شيئا تجلت فيه رأى الله تعالى في صنعه صغيرا كان أو كبيرا.
إنها على خلاف كل الحروف المتولدة عنها ليس كمثلها حرف ما،ولهذا لا يقع عليها التعريف كما يقع على الحروف،ولا يعرض لها ما يعرض للحرف من طول وقصر واحديداب،ولا تعقل بما يعقل به رسما ولفظا،ولذا كانت منزهة، يستند عليها الإنسان في عمله، وتستمد منها روحه ووجدانه،بوصفها النقطة الأولى من نقاط الدائرة الوجودية الجامعة للحقائق التي أودعها الخالق في كل شيء،جعل فيه ميلا إليها،كأنه أمر معنوي،يتحرك به إليها.يعود منتهى كل شيء إليها.فمنتهى الكلام يعود إلى الحروف،ومنتهى الحروف يعود إلى الألف،ومنتهى الألف إلى النقطة.والنقطة في المنظور الصوفي هي الوجود المطلق الظاهر بالباطن،بها ظهرت الهوية التي هي مبدأ الوجود،والتي ليست لها إشارة ولا عبارة،فدلت بوجودها ذاك على مقام الأحدية.
*النقطة في الفكر والخط العربيين
النقطة هي التي ينتهي الخط بها، وهي التي لا يوجد أي شيء أصغر منها. إنها الركيزة التي تنطلق منها رؤية نظام التناسب الجمالي، والتحليل الماهَوي لفعل الخط، فهي عند الخطاطين الصوفية وغيرهم أشبه بالإرادة المطلقة التي تُوجِدُ، لأنها الفاصلة الوجود والعدم،وبين الغموض والوضوح، وبين الحق والباطل، لا تتضح ما هية الحروف إلا بها،لكونها مصدر وجودها،فهي صغيرة في أثرها، كبيرة في دلالاتها، عظيمة في مجال الفن والجمال ،حيث تؤكد كينونتها الفنية بقوة، وتبسطها في مفاهيم متعددة على مختلف المستويات. فالخط العربي على اختلاف أطواره التاريخية هي التي جعلت منه أفقاً معرفياً وجمالياً يثير الكثير من الإشكالات الفلسفية والفنية، والكثير من القضايا المتصلة بإلإدراك البصري للخط العربي ، أو بالمنحى الذي يدرس العملية الإبداعية فيه.حيث تتجاوز عناصر التشكيل المتعارف عليها فيه من خط ولون وملمس، إلى عناصر تتصل بجوانب عدة ، تحتاج إلى مزيد من التمحيص و الدراسة.
فالتصوف وفن الخط يعدان من مفردات عالم الوجدان الفني بشكل أساسي، كما يعد البحث في العلاقة بينهما من المباحث المتشابكة، يحمل بين طياته الكثير من الأطياف الوجدانية والاجتماعية. فجمالية النقطة بوصفها بعداً فنياً وفكرياً له دلالاته في الحرف العربي، وله قيمته التشكيلية والتعبيرية، وعناصر التكوين فيه، وكيف تدخل النقطة كشكل ودلالة في اللوحة الخطية الصوفية عموماً ولوحة الخط العربي خصوصاً ،وكيف تشتغل بأسس فنية وجمالية فريدة، مرتبطة باللغة والزخرفة العربية.
فالنقطة في الخط ذات،وباب معرفة متأبية على الظهور..ذات تعبر عن الكينونةالتي جعل التجريد نموذجا،وتقدمه كشكل صافٍ،مبتعدٍ عن الدنيوي،مقتربٍ من الصفاء والاختصار الهندسيين.فالخطاطون يعتبرونها وحدة قياس،والفلاسفة جسدا بصرية مكَوِّنا للخطوط والسطوح،وباعتبارها هذا كانت وحدة تقاس بها تناسبات الجمالي الذي كان الحرف يدل عليه.
ولكن ما هو شكل النقطة بالتحديد؟
يقول المسعودي عنها في مروج ذهبه:<هي سطح مربع،يتكون نتيجة جرة قصيرة للقصبة(=القلم)على الورقة،طوله مساو لعرض منقار القصبة>.وهذا الشكل المربع يأتي نتيجة استخدام القصبة فقط.وما يعتبر نقطة في الخط وعلم الحساب لا يتقيد مطلقا بهذا الشكل المربع،بل قد يتخذ أشكالا أخرى في فضاء الورقة كنقط استدلال،أو كعنصر تزييني من أجل《إعطاء قيمة للفراغ》.فالتجريد في الخط العربي يهيمن بشكل شبه مطلق،وحتى (الفراغ) نفسه كان يتغيى الامتلاء بحضور المقدس ، إن لم يكن هو نفسه تعبيرا عن المقدس، يعبر عنه، تجريديا، بتكرارات شكلية لا نهائية تريد التشبه بلا نهائية المقدس الحاضر في كل مكان.
و لإخوان الصفا حديث عن النسبة الفضلى، في الفن البصري ،وفي الفن الموسيقي، يبين أن هذه النسبة مستنبطة من تأمل طويل في الطبيعة والكون وليست مجرد تخمين مجاني.فالخط فن تولد من النقطة،غايته تشبيه فعل الطبيعة،كل كلمة فيه صورة متناسبة الأعضاء.وهنا نكون أمام نظرية المحاكاة الأرسطية محوَّوةً لصالح التجريد،غير أن المقياس في الخط العربي ينطلق من رؤية تعطي الاعتبار لما هو جواني وللمتطابق مع هاجس المقدس، والروحاني، لأن الخط ما هو إلا فكرةٌ روحانية،ونقطةُ عالمٍ طفيف، يمكن تكبيرها وتصغيرهاحسب الحدوس التي تمور في وجدان الخطاط. بينما في غيره ينطلق المقياس من رؤية تعطي الاعتبار لما هو براني، و لما هو مرئي ،حيث يتم الاشتغال على الدنيوي، وعلى ما مآله الزوال.
فعبر فن الخط العربي ظهرت نظرية النقطة بوصفها بابا لمعارف الوجود والحياة،وطريقا سالكا لا ستكناه الجمالي في دوائر الكون الكبرى،وحافزا على إبداع تأملات جمالية تعين على التمتع بالحياة.فمن فكرة التناسب في الكون اهتدى إخوان الصفا ؛انطلاقا من النقطة والتناسب؛ إلى تكوين نظرية في علم الجمال ،هي في غاية الأهمية والقوة.بينوا فيها النسبة الفضلى القائمة على الهارمونية في كل خط ورسم ،كما هي لدى الأغارقة منذ فيثاغورس.فبنظرية إخوان الصفا نستطيع أن نكتشف المجهول المنسي،لكونهم يضعون مسافة بينة بين التناسبات البصرية الموضوعية، وطريقة ادراكها،فهم يلقون بنظرية بصرية تصلح لأن تكون دليلا للرسامين، ويقدمون فكرة عن إستحالة عمل بصري موضوعي الى درجة التشديد، فكلما كثرت الوسائط بين الشيء المنظور وبين النظر كان الخطأ فيه أكثر، واحتاجت الحاسة فيه الى دليل آخر يحقق نظرها ويصدق خبرها . من ذلك السراب فانه أخص من الماء، فحار فيه النظر وحال البعد فيما بين النظر وبينه عن الحكم عليه بما هو به، فظنه ماءً، فلما جاءه لم يجده شيئاً، وكذلك حال الشيء البعيد فإن الوسائط بينه وبين البصر كثيرة وهي الضياء والهواء، وكلما بعد ازداد في الصغر والتلاشي في البصر الى أن يغيب.
فنظريتهم هاته تعد مساهمة عميقة في تحليل وفحص فن الخط العربي عبر فكرة النقطة بشكل خاص، مستندين على معارف الهندسة الاقليدية، التي تطابق هوىً جذرياً في التجريد الهندسي الاسلامي القائم على النقطة والخط والسطح المستوي، فجميع تأويلاتهم المتعلقة بالنقطة لا تجد لها نظائر لدى اقليدس.،وإنما تعريفهم من طبيعة تأويلية، لأنهم يمنحون التعريفات السابقة بعداً جديداً و يتجاوزونها. فالنقطة عندهم تمثل بعداً اساسياً من أبعاد الفن الإسلامي عامة، وفي فن الخط العربي خاصة ، وتُستخدم بمثابة مقياس لدقة كتابة الحروف، وتشكل من جهة أخرى مقياساً للخطوط في علم الهندسة المحض. فهي بداية ونهاية الخط المستقيم، وهي بالنسبة لإخوان الصفا الشكل الذي “لا جزء له” – وهو تعريف إقليدي – إذا ما قورنت بالأشكال الأخرى.
فالمقاربة العربية الصوفية وغير الصوفية للنقطة هي مقاربة لها كطبيعة لامرئيةمتوهَّمة ومتخيَّلة.أما مقاربة الأغارقة لها فهي مقاربة لشكل غير قادر على التجزؤ،ولأثرٍ يدمغ.وإذن فالنقطة كائن غير مادي، أصلي وهمي، خفي لا يتحقق إلا بالبرهان ،ويقاربها الفنان الروسي كاندينسكي في كتابه(النقطة،الخط،السطح)من وجهة نظر مادية،حيث يقول عنها:(إنها تماثل الصفر).
فأية علاقة توجد بين النقطة(.) وبين الصفر(0)؟
لا شك أن هناك علاقة تشابه بينها وبين الصفر في الرياضيات الهندية ،فهو يكتب هكذا:(.)،ويمثل في الكتابة الشرقية الصفر والنقطة في آن واحدٍ،أما في الأرقام المغربية فالصفر هو:(0) ،والنقطة في الكتابة هي:(.).فهذه (.)الهندية/ العربية هي التي تماثل الصفر عند كاندينسكي،وهي التي بنى عليها استنتاجاته،ومن بينها دلالة النقطة على الصمت الذي هو وقوف على حافة اللاوجود،و يوضح ذلك بالمعادلة التالية: الصمت=(.)=(0)، وعلى العلاقة بين الجواني والبراني،وكأنه بهذا يشير إلى علم جمال جديد قائم على أساس النقطة باعتبارها إشارة ورمزا،تفتح العين والأذن بها طريق الصمت نحو الكلام.للخروج من الفقر الروحاني،والدخول في الفكر الصوفي الغزير الذي يستجلب هذا المعنى عينه للنقطة.
ستظل النقطة حجر الأساس في التصوف والفلسفة والفكر والفن؛ منها تبزغ شمس الإنسان في الأرض،ورغم كونها كائنا صغيرا متناهي الصغر فإنها مندمجة في الفاعلية الكونية الشاملة،وفي كل كائن كوني.