ربما كان لضغط العمل وحرارة تموز اللاهبة تأثيراً على مزاجه في تلك الظهيرة حين دخل البيت ليجد ولده الكبير ثائرا قد ضرب أخته ضرباً مبرحاً، لم يتحمل ما رأى فأوقع ابنه لكمات حتى أوقفه منظر امتزاج الدماء بدموعه، صُعق، واحتضنه وهو يبكي.
بقي على تلك الحال حتى ساد الصمت بينهما ثم اقتاده إلى الغرفة ليحادثه قائلاً: ثائر يا ولدي مراراً وتكراراً قلت لك لقد أصبحت رجلا وتبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، أريدك أن تكون مسؤولاً عن والدتك وإخوانك، كفاك تمرداً وإستهتاراًيا ولدي أنا في عمرك سحقتني الحياة مرات عديدة..كنت طفلاً حين كان والدي يأخذني معه إلى العمل، لا أتجاوز الثمان سنوات..وعلى الرغم من أن العمل كان ذو أجر بسيط لكن لا حل آخر لوالدي، مسكت يد ثائر واعتصرتها وسألته، هل تعلم شعور الطفل حين يرى والده يُهان أمامه؟ ولا يعترض، كي لا يخسر عمله مصدر رزقه.كنت أتمزق من الداخل وأنسحق حتى الموت حين أسمع رب العمل يقذف والدي بأبشع الصفات وينهره بصراخ يكاد يهز جدران محل تصليح عجلات السيارات وأنظر لعينه التي أرى فيها كل يأس وإنكسار الكون.أصفاد من وجع تكبلنا. من أجل مبلغ زهيد.كان يتحمل كل ذلك من أجل أن لا نمد يدنا لأحد، يضحي بكرامته ليصون كرامتنا..حين بلغت السادسة عشرة من عمري توفى والدي تاركاً والدتي الأمية فقيرة الحال وإخواني الصغار والحاجة والعوَّز..وقع ثقل الحياة على هامتي وبلا رحمة، بقيت أعمل مكان والدي لفترة وحين قام صاحب العمل بشتم امي، لم أتمالك نفسي فضربته بدل عني وعن والدي الذي مات كمداً من الإهانة. خرجت وأنا أبكي، أسير في الشارع لا أعلم إلى أين. في ظهيرة أحد أيام الصيف، أغرقت عيناي بالدموع وبطرف قميصي الممزق المليء بدهن السيارات ورائحته النتنة تلك تكاد تخنقني أحاول مسح دموعي لأرى طريقي وأسير بأقدام تائهة جلست على أحد الأرصفة وكأنني أبكي نيابة عن كل حياتي هكذا دفعة واحدة.وبينما أنا على هذا الحال حتى توقفت سيارة أمامي بسبب خلل، وكأن القدر ساقها في تلك اللحظة، ترجل منها شخص كبير السن. ترك السياره وجلس بجانبي بعد محاولاته إصلاحها لكن بلا جدوى.. قال لي: لماذ تجلس هنا في هذا الجو الحار.. ما إن سمعت كلماته حتى أجهشت بالبكاء، ربت على كتفي قائلاً، فهمت، إنها الدنيا، يبدو أنها ركلتك بلا رحمة، ابك يا ولدي، وبعدها احك لي ماذا حصل معك، قصصت له قصتي فقال ، يبدو أن الله ساقني إليك، فأنا سائق لعمال في مطعم، ويبحثون عن عامل آخر، قلت: لكنني لا أتقن شيئافي عمل المطاعم، مسك يدي قائلاً، هذه الحياة، تركلك لتعلمك درساً وصنعة.ساعدته في إصلاح السيارة وأوصلني إلى بيتنا وقال: غداً صباحاً سآخذك مع بقية العمال،وصلت المطعم وكان صاحبه غاية في الأخلاق وبقية العمال كأنهم إخواني، وشيئاً فشيئاً بدأت أتقن عملي،كنت أذهب إلى إخواني ووالدتي وأطباق بقايا الطعام بيدي كأنما حيزت لي الدنيا بما فيها.توسع عملي لأصبح طباخاً في المناسبات، والآن أملك بيتا وسيارة ومبلغ لا بأس به، كل ذلك كي لا تحتاج أن تمد يدك لأحد، واعلم جيداً أن كثيرا من الناس يتمنون حياتك. تذكر أنك لم تر والدك يُهان وينكسر أمامك ولا والدتك وهي تجلس والإنتظار منهكها لتحصل على بقايا الخضار لإعداد الطعام.كان لأول مرة يضرب ابنه بتلك القسوة، وبدل من أن يعي الإبن ماحدث مع والده في الماضي ويتعلم منه، إلا أنه تحول إلى شخص يرعبه أي شيء بسبب تلك الضربة، وهنا أيقن الأب أنه مهما تحدث ونصح فلن يتغير من الأمر شيئا مع ولده المتمرد، فمن لم يُعلّمهُ الأبوان، عَلَّمَهُ الزمان.