لفن كتابة الرواية التي تعلق بالذهن وتشد القارىء وتذهله حتى يغوص بعمق مستمتعا ومتأملا ومتعلما ومستفيدا من السخرية الآخاذة المتنوعة والوصفية العميقة الشاملة: وبصراحة وجرأة كاشفة وبلا “حدود وموانع وتابوات وتحفظات وتقديس وتمجيد وتشطين ونصائح ووصفات جاهزة واستسهال وسلق وفبركات وبوزات مصطنعة…وكذلك بلا نرجسية وفوقية وتكرار واجترار وملل”: (نسبة الاشتقاق حوالي 80 الى 20%).
*كتابة انطباعية جريئة معبرة تحفل بتعليقات كاتب المقالة: مهند النابلسي…
*يقول ماركيز: الرواية لا تكتب، انها تعاش بكل تفاصيلها! ويقول بارغاس يوسا: في اللحظة التي يجلس فيها أي كاتب ليكتب، فانه يقرر أن كان سيصبح كاتبا جيدا ام كاتبا رديئا؟!
الأدب فن موجه لتحسين العالم، وليس لتحسين الحسابات المصرفية…وأضيف من عندي ليس لقنص الجوائز والاستعراض والتباهي والنخبوية ومشاعر العظمة والاقصاء!
فالكوكاكولا هي البضاعة الاولى التي نفذت بعد فرض الحصار الاقتصادي على كوبا، حيث اخترعت اول الأمر كدواء وليس كشراب مرطب، وكانت تستخرج من اوراق نبات الكولا الذي يستخرج منه ايضا الكوكايين…علما بان تناولها مع الاسبيرين يمنحها مفعول المخدرات وأنها قد تذيب الاسنان خلال ثماني وأربعين ساعة فقط، ومع ذلك فالكل يعشقها لمذاقها الخاص!
*الولايات التحدة الأمريكيه: بابها مغلقا خير منه مواربا: ومع ذلك ومع تفشي الكورونا والعنصرية السافرة والاضطرابات الشوارعية والعنف وكراهيتها للعرب والمسلمين والفلسطينيين ومعظم شعوب العالم الثالث ودول امريكا اللاتينية وتحيزها السافر لدولة الاجرام والعدوان اسرائيل…فهناك كثر (عاديون ونخب) ما زالوا يسعون للهجرة والاستقرار فيها والدراسة والعلاج والاستقرارالأبدي والاندماج المواطني (والولادة فيها من قبل نساء حوامل) وذلك للتباهي بحصولهم على جواز سفر أمريكي وبطاقة الجرين كارد ذاتها، ومع ذلك فبعضهم يشتمونها بصراحة، كما أن أمريكا كدولة تعاقب الجميع (أفرادا وكيانات) ولا احد يستطيع ان يعاقبها وهذا لغز بالنسبة لي على الأقل…عموما فالتناقضات الواردة اعلاه تمثل ظاهرة “انفصامية” جلية تستدعي حقا الدراسة والتقصي (التعليق من كاتب المقالة وليس ماركيز)!
*تشبه قراءة الصحف تناول زجاجة كاملة من زيت الخروع على الريق…اما صحفنا اليومية البائسة بمعظمها فتشعر أن قائد اوكسترا واحد يدير الجوقة الموسيقية بنفس النمط والايقاع.
لقد كنت مؤمنا على الدوام بأن الحب “الحقيقي” قادرعلى انقاذ الجنس البشري من الدمار.
وهذا هو أفدح المظالم، فالآخر هو الذي ينعم بالشهرة، وأنا الذي “يتخوزق” في الحياة، ويكون كاتبا هامشيا يرقص في العتمة ولا يبالي به أحد(التعليق الأخير لكاتب المقالة)!
ان الحياة تتجمل بمثل هذه الأسرار أكثر مما قد يخطر ببال أحدنا: فعشية اغتيال يوليوس قيصر، رأت زوجته “كالبورينا” وهي مذعورة، أن جميع نوافذ البيت تفتح معا بعمق، دون ان تكون هناك رياح ودون ان يثير فتحها أية ضجة! وقد قال الامبرطور يوما: “أنا الذي احكم كل هؤلاء الرجال، تحكمني عصافير ورعود”.
*في فيلم “حياة أرتسبالدو دي لاكروز” للاسباني لويس بونويل يقع حادث رهيب حين تدخل راهبة من باب مصعد، ولا يكون هناك مصعد، فتهوي الى قاع الهوة وهي تطلق صرخة رعب، ثم هناك قصة عن مصعد يهرس ميكانيكيين كانا يحاولان اصلاح واحد وهما في القاع، وأعرف ابنة زوجين حبست لمدة ساعتين في مصعد مظلم وهي في الثانية عشرة من عمرها، وأكثر القصص رعبا تتمثل بالخادمة التي حبست في المصعد لانقطاع الكهرباء لثلاثة اشهر، ليجدو بقاياها متفسخة في المصعد! ومن خبرتي الطويلة في صناعة الاسمنت (كمهندس وكاتب لهذه المقالة) سمعت او خبرت ثلاث قصص مرعبة مماثلة: فعامل تقطع لأشلاء بفعل انكباس باب حديدي ضخم عليه قبل ان يتم اختراع نظام آمان لاغلاق ابواب المصاعد، ومشغل طاحونة كرات ضخمة وجدت بقايا من شعره فقط عندما أخذ قيلولته بعيدا عن الشمس داخل الطاحونة الباردة دون ان ينتبه له احد، ثم أخيرا وليس آخرا موظف تعبئة تم هرس رأسه بالكامل من قبل شاحنة اسمنت ضخمة محملة وهي تعود للخلف دون ان ينتبه لها المسكين، وقد تم التعرف عليه من هويته الشخصية فقط التي كانت بجيب قميصه الكاكي: هكذا فكلنا جميعا وليس ماركيز لوحده نملك مخزونا من قصص الموت المرعبة وقد ننساها مع مرور الوقت، كما يذكر “كاتب المقالة” أنه نفسه كان معرضا لحادث سير مميت في صحراء الربع الخالي عندما تجاوز شاحنة طويلة (في غسق يوم ما قبل حوالي ثلاثة عقود) دون أن ينتبه لكونها قادمة، وقد نجا باعجوبة وبرعاية ربانية خاصة حينها!
ثم الرعب يتمثل لبونويل عندما يظهر قائد الطائرة وهو يبتسم بقميص أكمام قصيرة، وكأنه يحذرهم من حادث مرعب قادم.
*لقد قام المنطاد الشهير “هيندبيرغ” بمئة وأربع واربعين رحلة عبر الأطلسي، ولم يكن فيه سوى عيب واحد يتمثل بكونه منفوخا بالاكسجين، القابل للاشتعال والذي تسبب في كارثته الشهيرة…وفي اعتقادي أنه لو كان ماركيز حيا يرزق لتحدث بالتأكيد عن “الانفجار النووي” الذي دمر ميناء بيروت وجزءا من المدينة الساحلية الجميلة بفعل تخزين كميات هائلة من “نترات الأمونيا” (باهمال لا مقصود) وتسبب بدمار رهيب غير مسبوق وعدد كبير من القتلى والمفقودين والجرحى، ويا حبذا لو استلهم هذا الحادث الرهيب بعض الكتاب المبدعين الأوفياء وتطرقوا لها بابداعاتهم الروائية القادمة…
*في نفس الولايات توجد جمعية مدنية تدعى “مايل هايل كلوب” يقبل في عضويتها جميع من أثبتوا انهم مارسوا الحب على ارتفاع يتجاوز الميل، كما توجد رحلة جوية شهيرة اسمها “رد ايزي اكسبرس” لا يسمح فيها للركاب بالنوم، لذا يصلون لوجهاتهم وعيونهم حمراء تتقد من السهر، ولا توجد فيها رقابة، وأسعارها منخفضة جدا، حيث يحمل المسافرون طعامهم وشرابهم ومخدراتهم وموسيقاهم وحاجاتهم الشخصية، ولا أحد يسأل هناك عمن تكون…وفي تلك الرحلات من لوس انجلوس الى ميامي او نيويورك، تكون فيها الأضواء داخل الطائرة مطفأة تماما، وحيث يكون الجنس هو أبسط ما يحدث داخلها كما قد يحدث احيانا في القطارات العابرة للحدود بصمت بلا ضجيج وتباهي!
*لقد كنت على قناعة دوما، بان لا وجود في الطبيعة لما هو “أجمل من امرأة جميلة” (وأزيد من عندي طفل جميل وحيوان صغير جميل وطبيعة جميلة آخاذة وفراشات ونحل وورود وأزهار …الخ) ومع ذلك، فالرواية الوحيدة التي تمنيت لو اكون كاتبها هي “بيت الجميلات النائمات” لكاوباتا الياباني، وتروي قصة نزل غريب في ضواحي طوكيو، حيث يدفع المسنون البرجوازيون المهووسون مبالغ طائلة، ليستمتعوا بالحب الأخير الرومانسي بطريقة مبتكرة: فهم يقضون الليل في تأمل أجمل فتيات المدينة، وهن يرقدن عاريات ومخدرات في السرير الرحب ذاته، وهم لا يستطيعون ايقاظهن ولا حتى لمسهن، لأن السعادة تكمن في الحلم بجوارهن بهدؤ وشغف وتأمل…واتسائل بدوري ماذا عن أصوات الشخير والروائح الكريهة التي قد تنبعث من فتحات الجسم ان صدرت: وقد ذكرتني هذه القصة بقصة “النسونجي العربي الثري” الذي دفع لممثلة هوليودية شهيرة شابة مبلغا طائلا من المال مقابل الجلوس معه بكافية لنصف ساعة فقط، وكانت المفاجئة بتبرع هذه الفنانة الجميلة “الحساسة” بكامل المبلغ لجمعية خيرية غربية وكأنها توصل له رسالة “ذات مغزى”…وأكيد فهذه الشخصية العربية الثرية “السفيهة” لم تسمع عن فقراء العرب المعدومين ابدا، وقد انزعجت حقا كذلك من شخصية عربية ثرية اخرى زارت لندن مؤخرا، ودخلت لمتجر ساعات روليكس او اوميغا السويسرية واشترت كل محتويات المتجر من الساعات، وخرجت متبجحة متباهية سعيدة!
*لقد أصدر الانجليز الحريصين في السنوات الاولى لاختراع السيارة، قانونا خاصا يفرض بموجبه على كل سائق ان يرسل أمامه شخصا راجلا يحمل راية حمراء، ويرن جرسا، لكي يتاح للعابرين الوقت الكافي للابتعاد عن السيارة!
*هي قصة السيارة (ذاتها) التي تلتقط في الطريق امراة متوحدة، ما تلبث أن تختفي من مقعدها اثناء الرحلة: وليس مستغربا ان يلتقي بها احد المسافرين يوما ما في مكان محنتها، تشير له برعب ان يتوقف وتمنحه الفرصة لكي تحذره: حذار فهذا المنعطف خطر!: وهذا ما يحدث لي، حيث أقضي احيانا النهار كله في اللف والدوران، دون ان يوقفني احد، لأن الجميع يرون راكبا وهميا في المقعد الذي الى جانبي، وعندما رويت هذه القصة للمخرج لويس بونويل، بدت له طبيعية جدا وقال لي “انها بداية موفقة لفيلم سينمائي”…وقد قرأت (ككاتب) في الصحف المحلية القديمة في ستينات القرن الفائت قصة مشابهة عن مهاجرعائد لوطنه للاستقرار، وقد أوقف سيارته ليلا ليقل أمرأة جميلة من منتصف الطريق القروي النائي، ثم ليراها بالمرآة تتحول تدريجيا لغولة شنيعة حيث أنزلها فورا، ثم شاهدها تتوعده منذرة وهي ترمي سيارته بالحجارة، مما استدعى عودته فورا ونهائيا لبلد الهجرة وقد تملكه الرعب الشديد وقد أقسم مرارا على صحة قصته التي مرت بدون أن يلتفت لها احد بجدية حينها!
*وأكثر القصص رعبا قصة الرجل الذي التقى مصادفة، في أحد الأسواق بامرأة جميلة، وقد حاول اغواءها واتفق مع ابويها، وفرضت شرطا غريبا بالامتناع عن أية علاقة جنسية، الا في بعض المناسبات القليلة التي تكون فيها مستعدة لذلك، ثم اكتشف بالسر ان زوجته تهرب أثناء النوم، لتلتقي بعشيق سري، فتبعها وقطع رأس ذلك العشيق بالسيف، ثم انجب منها لاحقا ثلاثة ابناء، ووجد في ليلة ما ابناءه الثلاثة مقطوعي الرؤوس بنفس السيف، وقد اختفت الزوجة هذه في ظروف غامضة…
*ثم هناك قصة مماثلة مرعبة: قصة المرأة التي لا تأكل لكي تهرب من البيت ليلا، حيث لا تأكل الا حبات من الأرز، تلتقطها حبة حبة بواسطة دبوس، ثم تهرب ليلا الى المقبرة لتأكل جثثا طازجة، وهناك قصة الصياد الذي يطلب من جار له رصاصا لشبكته، ويعده بان يعطيه مقابل ذلك اول سمكة يصطادها، وينجز وعده، وحين تقوم زوجة الجار لتنظيفها، تجد في بطنها ماسة براقة بحجم حبة البندق!
*وفي البحث عن ينبوع الخلود، فقد ارتاد ذلك الملاح الاسطوري منطقة في شمال المكسيك، ومكث هناك حوالي ثمانية اعوام في حملة غريبة أكل أفرادها بعضهم بعضا ولم يعد سوى خمسة اشخاص فقط من الثمنمئة اللذين ابحروا معه في البداية (أعتقد ان هناك مبالغة بذلك).
ثم كانت تباع خلال العهد الاستعماري دجاجات تربى في اراضي الطمي النهري، وقد عثر لاحقا في قوانصها على حبيبات عديدة من الذهب الخالص: هكذا مع كل هذا التجميع العجائبي لمثل هذه القصص الغريبة فلا نستغرب لما يسمى ماركيز باستاذ الواقعية السحرية بلا منافس، لأن دمج هذه الحواديت اللافتة داخل نسيج رواياته وقصصه بشكل محكم عضوي شيق ومقنع، حيث عجز غيره وأخفق عن مثل هذه المقاربة الابداعية الفريدة…
فضول السينما يعيش في داخلي: فقد بدأت مثل جميع أطفال ذلك الزمان بالمطالبة بأخذي الى ما وراء الشاشة لأرى كيف هي احشاء ذلك الاختراع…وحين اكتشفت السر اخيرا، بدأت تعذبني فكرة اعتبار السينما وسيلة تعبيرأكثر كمالا من الأدب، فلم يمكني ذلك اليقين من النوم الهادىء لوقت طويل…وأتذكر (كمهند النابلسي) في فيلم وثائقي ليوسف شاهين كيف عبر فلاح مصري “متخلف” عن كراهيته الشديدة للسينما باعتبارها “حرام” واقترب من الكاميرا في منطقة الاهرامات وكسرها بوحشية قاهرة وكأنه يثأر منها!
*ثم ادركت أثناء ذلك العبور للصحراء انه ليس هناك من عمل للتحرر الفردي أروع من جلوسي وراء آلة كاتبة لاختلاق ذلك العالم ” الواقعي السحري الشيق الحافل بالتفاصيل والذكريات” (ويقصد هنا روايته الشهيرة “مئة عام من العزلة”)!
*لذلك سألت غراهام غرين عن حقيقة حادثة الروليت الروسي، التي يرويها في مذكراته: حيث روى أنه قد لعب فعلا في ذلك الحين لعبة الروليت الروسي بمسدس قديم لأخيه الأكبر في أربع مناسبات مختلفة: وعندما سأله فيدل كاسترو كم طلقة كانت تتسع طاحونة ذلك المسدس، فأجاب “ست طلقات” ثم اغمض كاسترو عينيه وراح يهمس “استنادا الى حساب الاحتمالات، يجب ان تكون ميتا 128 مرة، وربما هناك مبالغة وخطأ بهذه الحسبة: وقد شاهدت بفيديو واقعي كيف يفجر اثنان من لاعبي القمار المدمنين رأسيهما بالروليت الروسي ليفوز الثالث الناجي بكومة كبيرة من الأوراق النقدية، كما تعرضت السينما مرارا لذلك بقصد الاثارة.
*كان لويس بونويل يخاف من فقدانه لذاكرته في بواكير شيخوخته: ان ارادتنا غير قادرة على منع الموت، لكنها قد تكون قادرة على على سد الطريق أمام الشيخوخة (وهذا مجرد تنظير بحت فلا احد قادر على ايقاف زحف الشيخوخة وخاصة مع ارتفاع معدل زيادة الأعمار عالميا).
*لقد سمعت ان “ألدوس هكسلي” قد قرأ، صفحة صفحة، نحو ثلاثين مجلدا من الانسكيلوبيديا البريطانية (حيث ربما لا يوجد احد قادر على اعادة هذه التجربة حاليا مع انتشار الانترنت وسرعة التصفح)!
*يوليوس قيصر الذي سلمه معلم البلاغة الاغريقية ورقة مكتوبة نبهه بوجوب قراءتها فورا، وكانت تتضمن تفاصيل المؤامرة، لكنه لم يقرأها ابدا، ثم لقي مصرعه بثلاث وعشرين طعنة!*اللغة العالمية المنتشرة هي “الانجليزية الركيكة”، والأرض هي جحيم الكواكب الاخرى، والفراشة الزاهية الروحية تعلمت الطيران بعد مضي 380 مليون عام لا أقل، ثم ربما ستكون الصراصير الكريهة هي الأثر المتبقى الوحيد مما كانته الحياة والحضارة يوما!
هكذا أتحفنا ماركيز برحلته العجائبية الشيقة المتنوعة في هذه الفقرات المعبرة متحدثا عن جملة مواضيع بصراحة وفضول: كالكوكاكولا وأمريكا واغتيال القيصر وكوارث المصاعد ومصير المنطاد الكارثي ورحلات الجو الجنسية الرخيصة…وصولا لرواية بيت الجميلات النائمات وقصص الجنيات في السيارات وآكلي لحوم البشر والدجاجات التي تبيض ذهبا…كما تحدث عن سحر السينما والروليت الروسي وجملة مواضيع اخرى غريبة وشيقة ومثيرة للدهشة والتأمل…وكلها امثلة واقعية ذات طابع غرائبي تدخل ربما في نسيج رواياته بتلقائية دون “تصنع وفبركة ولي” كما نقرا بملل في بعض الروايات أحيانا.
*ثانيا:
*فقرات من رواية “تنهيدة المغربي الأخيرة” للكاتب “البريطاني-الهندي” سلمان رشدي تعبر عن واقعية وصفية صادمة ومستفزة قلما نشهدها في الكتابة الروائية الدارجة:
*وصف معبر للمعاناة داخل سجن بومباي المركزي (ربما يتماهى كثيرا مع حالات سجوننا العربية المهملة البائسة وسجون الاحتلال الصهيوني العنصري المنسية): سجن انفرادي، الحرارة فيه زادت من رائحة العفن، فهناك…البعوض، القش، برك من السوائل، وفي كل مكان الظلمة، صراصير. قدماي الحافيتان تسحقانها وانا امشي. لكن حين وقفت ساكنا، تسلقت ساقي الى الأعلى. فانحنيت مرعوبا ابعدها بيدي لأشعر بأن شعري يحتك بجدار القفص الأسود. الصراصير تجمعت حول رأسي ثم نزلت على طول ظهري. شعرت بها تدب على بطني ثم تنزل الى عانتي، هنا بدأت حركة “نخع” مثل دمية متحركة، ضاربا نفسي، صارخا فقد بدأ شيء ما يجتاحني- شيء كالدنس (وأتذكر ككاتب في طفولتي الغابرة مشهد حمام بخار عتيق تراثي نابلسي موشوم على جدرانه بكم هائل من الصراصير المتأهبة الواقفة بشواربها الكريهة المستفزة حيث لا احد من الحضور يبالي بوجودها)!
وفي فقرة اخرى بالغة الدلالة:
“…لكن انت بلا رحمة، لا تستنزف قواك. ودع جسمه ينسلخ أمامك: عندما يصبح شكلا بلا حدود، روحا بلا جدران، حينئذ ستشد يداك على عنقه وتضغطان، تضغطان الى أن يندفع الهواء خارجا من فتحات جسمه المتاحة كلها فتضغط لتخرج روحه مع “ضراطه”، تماما كما انت ضرطته، يا امه، ليخرج منك…والآن ها هو رمق وحيد بقي لديه: فقاعة راعشة من أمل…ثم وصولا الى الخاتمة الجامعة:
…وها أنا اجلس هنا، في آخر ضؤ، بين أشجار الزيتون هذه، انظر عبر الوادي، الى كل بعيد، كل من ينتصب هناك، رمزا لمجد المغاربة، عليه رائعة انتصاراتهم وآخرحصونهم، الحمراء، قلعة اوروبا اخت قلعة دلهي وأغرا…بعد زمن طويل من سقوط غرناطة، كشاهد على حب ضائع لكنه الأعذب، شاهد على الحب الذي يستمر بعد الهزيمة، بعد الابادة، بعد اليأس…انني اشهدها وهي تختفي مع ضؤ الغسق، فيحمل اختفاؤها الدموع الى عيني”! في الختام اتمنى نشر هذه المقالة وعدم تجاهلها لصراحة طرحها ومقارناتها الابداعية مع نماذج ركيكة وربما سخيفة من سيل الرواية العربي الراهن المتدفق!
مراجع المقالة:
*”كيف تكتب الرواية” لجابرييل غارسيا ماركيز” (2016)/ترجمة صالح علماني/ورق للنشر والتوزيع.
*”تنهيدة المغربي الأخيرة” لسلمان رشدي/ترجمة عبد الكريم ناصيف/دار تكوين للتاليف والترجمة والنشر/2016
*مهند النابلسي:
*ناقد وباحث أدبي/كاتب وناقد سينمائي/عضو رابطة الكتاب واتحاد كتاب الانترنت العرب/وفائز بدرع “ديوان العرب” للعام 2016 ككاتب نقدي متميز.