إن تناولنا لهذا المفهوم لن يتمحور على أسس استحواذ الخطاب السلفي على المشهد الثقافي القائم ، أو ما يقابله من احتكار قد يمارسه الإيديولوجي على الثقافي ، بقدر ما تفحّصنا للظاهرة، سيكون من خلال استنطاق زيف الحداثة وخبث ما بات يتلبس جوهرها،فإذا هي تجود بانطباعات ، تبرزها على غير ما تنطوي عليه ،أي هذه الحداثة المغازلة بأقنعة الأصوليات بالمغزى الكلي ،وفي ما تترجمه صفحات الجور على الإنسان والعالم .
تلكم الحداثة الواهية ،حين تعكسها الحاجة الماسة إلى التطور والازدهار ، حين تتيح للشياطين استثمار أوجاعنا ومصادرة أحلامنا المشروعة .
عبر التاريخ ، وحسب التجارب الإنسانية المسترسلة ، نلفي نجاحات الخطاب أيما خطاب ، إنما يحقّقها الانتماء إلى شجرة الإنسانية ،بدرجة أولى ، والمجاهرة بالقواسم وبالهوية المشترك ، فيما الإخفاقات تكون تبعا للتيارات المضادة ، ونهج خلاف ما يرسي دعامات الثقافة المتخذة من الإنسان مركزا كونيا ، ومتنا أحقّ بالقداسة ، إذ بالحمية والتقوقع والتعصب والأنانية والدوغمائية والتجبّر، ولغة الهيمنة والإقصاء، تنشط سرطانات الأصولية في رحاب الدور الثقافي ، بما يوقظ همجية وشذوذ وظلامية هذه الذات.
مع ربط الربح كما الخسارة ،هنا ،باعتبارهما غريمين أبديين ، وإلحاقهما بالمعنى النفسي والعاطفي ، نعتبر أن أعذب الانتصارات ما صبّ في مجالات ربح الذات وتحريرها وترويضها والسيطرة على نزعاتها ، والعكس بالعكس تماما ، أمرّ الخسارات أن تستعبد النفس صاحبها.
فقد كان نابليون وهو القائد الفرنسي التاريخي العظيم ، ينحني لسادية زوجته ،ويخضع كل الخضوع لسلطتها عليه ، بل ويركع تحت قدميها ، مطعونا في كرامته ،مكلوما بعجزه وملدوغا بضعفه.
وحقيقة أن الانتصار الحقيقي إنما يكون على النفس ، عبر تصالح تام معها ،وفهم عميق وغير مرتجل لها ، مثلما الهزيمة الفادحة ،تكون بالاستسلام الكامل لهذه النفس ،وتنويم مكامن القدرة والإرادة ومشاتل النبل والنورانية والجمال ، في طياتها.
إن ما بين الذاكرة المتسلطة ، أو الأصالة الموغلة في سياقات الأصولية ، وإغراءات الحداثة العاصفة بالملمح الإنساني والجماليات الروحانية ،تكمن المساحة الثقافية التي يفترض أن تعنى بتلوينات الكائن البريئة ، والمتمردة على منطق التمايز الألسني والعرقي والعقدي والإيديولوجي.
إنه لمن المستغرب أن يُترك النص الثقافي ، لتعطى الأولوية لسيرة منتجه ، وكأن التباهي ليس يتم بسوى المفاضلات القادرة على صناعتها الشهادات الأعلى فالأعلى ، ضمن ملابسات معينة وفي أنساق واقع تنخره من الوجاهة والأقنعة والغش والاتجار في سائر مكوناته وعناصره ، ما ينخره ، فالعقل في أن نتهمّ الإنسان دوما ، وأن نبرأ التاريخ.
إنها الأصوليات الثقافية الناجمة ، سواء ، عن سلفية الخطاب ، أو الحداثة المستوردة التي لا تلائم خصوصيات مجتمعاتنا الرافضة للتبعيات الاقتصادية ،وشتى سياسات الانفتاح على الريع المُعولَم الذي يدفع ضريبته الإنسان والعالم ، على حدّ سواء.
في اعتقادي ، هي خافضة مؤججة للمماطلات التقدمية والتنموية في العديد من الحقول ، فأي ثقافة لا ترعى خيارات بناء الإنسان ، لا يمكن أن تنأى عن توصيفنا هذا والذي بات يؤرق نخبة ممن اكتشفوا اللعبة مبكر ، وقبل فوات الأوان ، واعتبروا أن سوط الرسميات في تطويعه للنشاز الثقافي ، لا يقل خسة ونتانة ،عن الجوهر الأصولي للحداثي الماكر بمراياه.
هو صراع ممتد وممعن في تخدير الأجيال ، لا أحسب أن الفكاك من متاهاته ، والتنصل من ألغامه ، ممكنا بغير جعل الحداثي والسياسي مطية للثقافي المثقل بالحمولات الإنسانية ، والمنشغل بأسئلة بناء العالم والكائن ، بمعزل عن الجشع الاقتصادي ،وخارج دهاليزه.
بناء على ما ذكر ، نكاد نجزم أن تجارب بناء الإنسان ، إنما تتفتق من ثقافة تحترم سيكولوجية هزم الذات على نحو يعزز ثالوث التصالح والحرية والمعرفة ، وهي فصول تتشاكل وتتكامل ، كي تعري أنساق التلهي براهن الأصوليات الجانية على الكائن وعوالمه.
ختاما نشير إلى أن الحداثة المعلبة في استيرادنا الأعمى لها ، توقع في فخاخ الأصولية الثقافية المفسدة للأذواق والعقول والأجيال.