فلا قبلها قبل ولا بعدها بعد
وقبلية الأبعاد هي لها ختم
ـ ابن الفارض ـ
* حمــــأة المـــوت
من أروع ما قرأت عن مآل النفس ومفارقتها تحت قيد الخوف والإعداد له ما ورد في رسالة ابن سينا عن النظر لبشري للموت وتفكيره به والاستعداد له، قوله إن “الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري بالموت على الحقيقة، أو لا يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحل ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور، وأن العالم سيبقى بعده موجودا وليس هو موجود كما يظنه من جهل بقاء النفس وكيفية معادها، أو لأنه يظن أن للموت ألما عظيما غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله، أو لأنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت، أو لأنه متحير لا يدري إلى أي شيء يقدم بعد الموت، أو لأنه يأسف على ما يتخلفه من الأهل والمال والقنيات.”
هذا التعليل الفلسفي يحاور باطن النفس قبل مظهرها، يحاذي به تنظيم حجية الجوهر والبدن وانقلابهما ما بين الفناء والعدم، وتوقهما لحدوث نوازع تعلو على العقل وتقترب من الغيبيات. وهو تصور يسند فهمه الآسر للنفس من حيث كونها جوهر غير جسماني، وليست عرضا، وإنها غير قابلة للفساد” . مع أن المدلول على المادي لا يستقيم في مثل مصير الجسد إلى الفناء، وهو نظر دفع العديد من المتكلمين اتهام ابن سينا بالخروج عن الظاهر في المعتقد.
لقد قارب الفلاسفة المحدثون مفهوم الجوهر كجماع للصفات والعلاقات الأعمق والأكثر استقرارا للشيء، والتي تحدد أصله وطابعه واتجاهات تطوره، غير أن الفيلسوف العربي ابن سينا ذهب إلى أنه لا يفنى من حيث هو جوهر ولا يبطل ذاته، وإنما تبطل الأعراض والخواص والنسب والإضافات التي بينه وبين الأجسام بأضدادها مع العلم أن المظهر هو جماع الصفات والعلاقات المتنوعة الخارجية والمتحركة للشيء، والتي تتكشف مباشرة للحواس.
فإذن الموت كما عند ابن سينا هو مفارقة النفس البدن لا ألم له، لأن البدن إنما كان يألم ويحس بالنفس، وحصول أثرها فيه، فإذا صار جسما؛ لا أثر فيه للنفس، فلا حس له ولا ألم، فقد تبين أن الموت حال للبدن غير محسوس عنده ولا مؤلم فراق ما به كان يحس ويتألم.
إن تفكيكا يحول بين فهم المفارقة بالألم وعدمها يثير سؤال الوحدة في النفس والجسد ما بعد الموت ولا يحسم المعنى الحقيقي لتأويل فعل الغياب أو العدم. إذ كيف يموت الجسد وترتقي الروح في مدارج الغياب دون إدراك محسوس !
إنه تشاكل فلسفي لا يخوض فيه غير العارفين بضياء الروح وانبعاثها فور انطفاء الجسم!
– أرواحنا القصية تشهق من التعب، ترتدي حجاب الجسد، وتعاقر الزمن وتفتديه بكل ما هو غيبي، علها تنوء بحمل أثقال الحياة.
كيف لقدرة طافقة بالعزلة وقيود الشك وهشاشة الرؤية أن تحتذي بالمعنى الغارب للموت؟ الموت الذي يهزم الجسد ويفضي إلى العدم؟!
بالقدر الذي لا أحتمل انهزام جسدي وتعطله عن أداء واجب الوجود، بما هو قيمة وأخلاق وأفضلية، بالقدر الذي أشعر بامتلاك شيء جواني، كظل خفي، أو لباس شفاف، يتماهى والروح المستيقظة دوما، المنتشلة من قفص أسود أو لوح فوق شلال خاطف
هل تكون الروح جسدا آخر غير ما نلمسه ونستشفه؟.
هل هي روح لا ترى بالعين المجردة. لقيط من ألم وهوى، مزيج من عقل وعاطفة؟!
هذه الأسئلة وغيرها، مع الأسف الشديد، هي نتاج مرحلة فارغة من قراءاتنا السطحية لمقاربات الجسد والمقدسات في الخطابات الدينية، وفي توهمات مناهج التربية الاتباعية.
حفظناها وشربناها عن ظهر قلب، ولم نفلح في استيعابها وتنظيمها فكرا وقابلية.
تلك قطعا لم تكن مسؤولية أبي أو أمي. إنهما معا سر الإحساس بالروح، سطوتها على المقروء، على الاعتقاد بالله، بوحدانيته، بالتواصل معه ..وبمحبته!
لا تزال الروح تنظر إلى شهوتها المخبوءة بين أضلع الجسد، كعربة أفلاطون التي يقودها فرس برأسين، واحد أبيضهو التيموس المتمثل في الروح والآخر أسود هو الإبيتوميا الذي يعني الجسد. النص الأفلاطوني يعتبر الجسد سجنا للنفس، يحجزها بداخله ويعيق معرفتها للحقائق.
– كيف للموت أن يكون ملاذا للأعطيات؟ يستسيغ درء الأقدار ونفاذ الحتوف! مهما كان ألما لا يثقل عن فكاك النفس ورحيل الأغنيات.
لا أدري هل يفتح الموت باب الشهرة ويغلق باب الحسد كما ادعى فيكتور هوغو، لكن عراء شديد الغضب يأكل ثوب الإنسان وهو يحدو حدو الصائد الذي يجزي فريسته كي لا يطالها هروب الاضطرار والخوف! علامة على ضعف الوجود بما هو جوهر وعرض؟!
* الخطر حتى الموت ..
الأعمال الصالحة هي الإرادة المكينة التي توثق الصلة بالعالم الآخر. بل إنها العزيمة التي تبدل عند الوقت الحاسم.
وإذا كانت الأعمال الصالحة رهينة النيات الحسنة فقط فلن تبلغ ثمارها المرجوة . ولهذا لن يكون التحري البديل في دخول الجنة / السعادة قائما على الصلة الحقة بين الأمل والواقع، ما دام عقد الوجود موئلا إلى فكرة إعادة الإحياء والتجلي.
وقد ترجم الشاعر الإيطالي دانتي اليغيرا هذا الاحساس إلى حكمته الشهيرة ” الطريق الذاهبة الى جهنم مفروشة بحجارة ذات نوايا حسنة”.
إن مبدئية التقيد بالأخلاق قيمة معيارية تمثل جوهر انكفائنا على تحصيل سبل لإدراك معنى الصلاح وعمل الخير.
وهي مبدئية ترتقي لتعلو سماء المحبة والبحث عن الحياة. كيف بالرغبة أن تكون فضيلة والفعل الحر خارج سيطرتها؟
كيف تنجو الروح من حبسها وهي غافية عن إدراك الكمون؟
هل تستحيل البذرة إلى محصول إيجابي دون معرفة كنه ما تحبل به في قاع الرحم؟
ذلك أن تقدير العمل بالنية لا يخالف الثقة بالحصول على ما نريد، شريطة أن نحدو فكرة الله في النفس الساجدة .. الله بما هو معتق، طاقة معجزة تمدنا بالإيمان والقدرة على تحويل القول إلى عمل نافع.
معادلة تليق بتفتيق ناذر لفكرة أن تعني الحياة من ضمن ما تعنيه أن نعيش في خطر ..
يضيف أحد الحكماء (صدقوني إن السر الذي يجعل الوجود ممتعاً ومثمراً هو أن تعيشوا في خطر.. فلتبنوا مدنكم تحت بركان فيزوف.. ولترسلوا سفنكم إلى البحار المجهولة.. ولتعيشوا في حرب مع أندادكم ومع أنفسكم.. ولتكونوا غزاة ما دمتم لا تستطيعون أن تكونوا حكاماً ومالكين.)
المصاعب والأخطار المحدقة بالحياة، الصورة النقيضة للإيمان بالمعنى؛ دون أن نطيل النظر في ما ليس حقيقا بالوقوع، أصار ملكا للقدر أو مشاعا لإرادة النفس!
* كأمر فاصل بين أمرين
هناك طفرة جسور لتأويل هاجس الموت عند أحد أهم مترجمي وباحثي فكر محي الدين بن عربي، وهو المفكر الاستشراقي الأمريكي الذي كتب مؤلفا يقارب فيه مسألة (عوالم الخيال: ابن عربي ومسألة التنوع الديني) ، ويطرح من خلاله جملة من البراهين على اتصالية الموت بعالم الخيال، وأن معظم تعاليم الصوفية هو خروج عما يسميه بالإسلام التقليدي
ولا غرو فقد اتكأ تشيتيك في تفسيره لهذا الاتجاه الفلسفي الصوفي على نظرية ابن عربي القائلة باستحالة إفراز الفهم الحقيقي للوحي الإسلامي لمن لم يعرف مرتبة الخيال الوجودية. وهو ما يؤكده قطعا في الفصوص قائلا “لا موجود ولا معدوم ولا مجهول ولا منفي ولا مثبت”.
إذا استجبنا محتملين قوة إدراك الموت الخيالي، بالمعنى الانطولوجي ، على خلفية كون الخيال المراد عند ابن عربي وغيره هو الواقع ما بين الجسماني والروحاني وهو”البرزخ” فإن التقاطع بينهما يحدث عند مغادرة عالم الغيب الى عالم الشهود، والعكس صحيح ، يحتمل أن يخيل العبور الى منطقة الخيال. ولهذا يكون الاعتقاد بتقريب صورة الملائكة في المخيال موقوفا بالنظر الاعتباري للصور الحسية المنقولة من النص. كمثل رؤيا الأولياء التي يختبرونها روحانيا، ويتخطونها لتصبح أرواحا مجردة.
وأقصى هذه الخيالات ما رواه ابن عربي نفسه أن النبي رأى ربه في صورة شاب. كون الخيال يجسد ما ليس من شأنه أن يكون جسدا.
ومن أجمل ما قرأت له في هذا الشأن:
إنما الكون خيال
وهو حق في الحقيقة
والذي يفهم هذا
حاز أسرار الطريقة
* من مات عن هواه فقد حي بهداه
حتمية الموت هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن تصديقها على حالة الغليان التي ترزح تحت نيرانها فلسفات اللامعنى والإلحاد الديني، والتصنيفات الأخرى للتفكير. وما عداه يظل مجرد كوابح أو قضبان سجنية لمن يريد التحلل من وظيفته الوجودية وسؤاله في الخلق الكوني ونظامه القيمي.
الموت أكبر التئام للنفس قبل صعودها، وأعلى قيمة للحرية بعد انقضائها. وما أبلغ باروخسبينوزا وهو يصف هذه الوقفة، كون العقل البشري لا يمكن تدميره بصورة مطلقة مع الجسم ،لكن ثمة شيئاً خالداً يبقى منه.
وهي نفس الإحالة على ارتقاء الوجود الآخر إلى حياة أعذب وأبهى . يقول ديكارت :” اعتقد أنني أعرف بوضوح بالغ أن الأنفس تبقى بعد الجسم، وأنها قد ولدت من أجل ضروب للفرح والغبطة أعظم كثيراً من تلك التي نتمتع بها في هذا العالم ، وأنني لا أستطيع التفكير في أولئك الذين ماتوا إلا باعتبارهم ينتقلون الى حياة أكثر سلاماً وعذوبا من حياتنا ، و إننا سننضم اليهم يوماً ما، حاملين معنا ذكريات الماضي. ذلك لأنني أتبين فينا ذاكرة عقلية من المؤكد أنها مستقلة عن الجسم”.
إنها نفس وحدة الاعتقاد الصوفي، حيث الموت هو الحجاب عن أنوار المكاشفات والتجلي وقيل هو قمع هوى النفس، فمن مات عن هواه فقد حي بهداه.
* ينبغي ألا نرهب الموت
هذه الحكمة الأبيقورية تكاد تنزوي في الملاذ النائي عن كل ظن إنساني! كيف بالموت أن يكون مرهوبا بحدسنا، بوجوديتنا النبيلة؟
ذلك أن الغاية من الفكرة أساسا الوصول للحياة السعيدة والمطمئنة. إذن لا بد وأن التخلص من الخوف وتغييب الألم والاكتفاء الذاتي محاطين بالأصدقاء، سيبدد الرهان على تفويت فرصة للموت كي يكون مستبدا وحاقدا!؟
فما بالك إذا كانت نهاية الجسد والروح مربوطة بالتمادي مع حتمية الموت، عبر تقليص حدة الاضطراب والتغول والمواجهة !.
المفاهيم الأبيقورية تتعالى مع كل المفاهيم الفلسفية المصيرية. بل إنها تجسد رؤية فاخرة ومستنيرة، حيث يصير عنوانها الأبدي الإفضاء بوجود قيم ما ورائية هي مآلية الارتقاء بالحياة إلى مدارج أكبر من قيمة الزمن ومشاغله. ومن تلك المفاهيم المحددة للكينونة والترقي الوجداني والروحي الإيمان بثمانية حقول معرفية:
– لا تخف من الآلهة
– لا تخف من الموت
– لا تخف من الألم
– عش ببساطة
– ابحث عن المتعة بحكمة
– تعقد صداقات وابحث عن أصدقاء وكن حسن المعاملة
– كن مخلصا في حياتك وعملك
– ابتعد عن الشهرة والطموح السياسي
* الحلاج يضحك في وجه الموت
لما أتى الحسين ابن منصور الحلاج ليصلب رأى الخشبة والمسامير فضحك كثيرا حتى دمعت عيناه ثم التفت الى القوم فرأى الشبلي بينهم فقال له : يا أبا بكر هل معك سجادتك ؟ فقال بلى يا شيخ قال افرشها لي ففرشها و صلى الركعتين التي سنهما الصحابي خبيب ابن عدي قبل القتل فقرأ في الركعة الاولى فاتحة الكتاب و بعدها ” و لنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الاموال و الانفس و الثمرات و بشر الصابرين ..” ثم قرأ في الركعة الثانية فاتحة الكتاب و بعدها “كل نفس ذائقة الموت وانما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور..” . فلما سلم ذكر أشياء لم أحفظها و كان مما حفظته قوله : اللهم إنك المتجلي عن كل جهه المتخلي عن كل جهه، بحق قدمك على حدثي و حق حدثي تحت ملابس قدمك أن ترزقني شكر هذه النعمة التي أنعمت بها علي حيث غيبت أغياري كما كشفت لي من مطالع وجهك و حرمت بها غيري ما أبحت لي من النظر في مكنونات سرك ،هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك و تقربا إليك فاغفر لهم فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت، فلك الحمد فيما تفعل و لك الحمد فيما تريد، ثم سكن و ناجى سرا فتقدم أبو الحارث السياف فلطمه لطمه هشمت أنفه و سال الدم على شيبته ،فصاح الشبلي و مزق ثوبه و غشي على ابي الحسن الواسطي و على جماعة من الصوفية المشهورين و كادت الفتنه تهيج، ففعل أصحاب الحرس ما فعلوا !!! ثم تقدم صاحب الشرطة فشده إلى آلة الصلب ثم أمر الجلاد بأن يضربه ألف سوط فأخذ يضربه وهو صامت لا يتأوه ولا يضطرب ولا يستعفي وإنما يقول أحد أحد فلما أتم الجلاد ما كلف به أخذ الحلاج يتواجد ويتبختر في مشيته وفي قدميه ثلاثة عشر قيدا، ثم راح وهو في ثمل روحي عميق ينشد:
نديمي غير منسوب
الى شيء من الحيفِ
دعاني ثم حياني
فعل الضيف بالضيفِ
فلما دارت الكأس
دعا بالنطع والسيفِ
كذا من يشرب الراح
مع التنين في الصيفِ
ثم تلي قوله تعالى:” يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها و يعلمونأنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد “.
* أتعرف عليه بالكرم
مع أن صفة الكرم تطلق على ما يحمد من الأفعال، فإن النفري عظمها ضمن أنساق معرفة الإنسان بالخالق الأكرم ؛ فقال : “وقال لي أوليائي الواقفون بين يدي ثلاثة: فواقف بعبادة أتعرف إليه بالكرم، وواقف بعلم أتعرف إليه بالعزة ، وواقف بمعرفة إليه بالغلبة.
أما نطق الكرم بالوعد الجميل، ونطقت العزة بإثبات القدرة، ونطقت الغلبة بلسان القرب”.”
أقول : مع أن الكرم بالوعود عند العرب هو أتفه أنواع الكرم وأقلها عناء وكلفة
وللحقيقة فالرؤية ها هنا تنبت طوقا من الإغضاء عن عنصر مهم في ما يدل على الإيثار والسخاء، وهو الحياء الذي يظهر بعد البدل والتقدير الذي يسلك بعد التبليغ.
وقد قال الجنيد في ذلك : “رؤية الآلاء ورؤية التقصير، فيتولّد بينهما حالة تسمى الحياء”.
إذ كيف ينزع شعورنا السخي بوفرة الحمد لمن له القدرة والنعم، دونما حاجة إلى تثبيت قدرتنا على احتمال القناعة وإسباغ الشكر.
عظيمة هذه العجينة الصوفية الجامعة، “العزة بإثبات القدرة والغلبة بلسان القرب”. وأما سنامها فبين الإثبات والتغليب، وصبيبها يتصدر الاستطاعة أو الحرية على تحقيق مناط القرب والإصغاء. وإني لم أجد لهذا التوارد أقرب من جواب أحد أقطاب العرفان عندما سئل عن مبتغى الوجود ، حيث قال :” الضَّلالَةَ حَقَّ الضَّلالَةِ أَنْ تَعْرِفَ مَا كُنْتَ تُنْكِرُ , وَأَنْ تُنْكِرَ مَا كُنْتَ تَعْرِفُ ، وَإِيَّاكَ وَالتَّلَوُّنَ ، فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ وَاحِدٌ ، قُلْتُ : الْعِزَّةُ إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ , وَهِيَ الْقُوَّةُ فَمَعْنَاهَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الْقُدْرَةِ , وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ ، فَمَعْنَاهَا يَعُودُ إِلَى الْقُدْرَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى نَفَاسَةِ الْقَدْرِ ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى اسْتِحْقَاقِ الذَّاتِ تِلْكَ العزة”.
بليغة تلك العبارة.
* كــــاف المعــــنى
تفكرت اليوم نجوى الأيقونة الحكمية مولانا أبو الحسن الششتري
كافُنَا الإلهيُ لاَ يَفْنَى
إِنْهُ إِلى لَفْظِكُم مَعْنَى
كُلَّ مَنْ يَهِيمُ بِما هِمْنَا
فقلت :
ذلك الكاف المهيب الذي يسور اللفظ بالرضوان، ويعدل من سجدة الجسد كي تنثني الروح بالأشواق المثمرة والأرزاق المنتظرة.
الكاف الإلهية المستنفرة، التي تحجب اللقيا؛ حتى تدين النفس وتتطهر من أدران الشكوك!
وهو معدوم الفناء مستحيله، مقسوم مقسم عليه الطاعة والتطوع، والاستسلام والخضوع الأزلي.
وكما يكون للكاف حب وتشبب بالعاشق المعشوق؛ يكون للفظ المتجاسر للبدل والعطاء معنى ومبنى ؛ لأمانة الأمانة وفضل البوح واحتذاء الساق للصلاة والدعوة إلى التفكير والتأمل والخشوع المستكين المتذلل.
وإذا المهيم سفر وعبور إلى الماوراء ! حجة لمن يشتد شغفا بمن يحب ويتحبب.
وكأني بالشاعر ينشد:
يَهِيمُ وَلَيْسَ اللهُ شافٍ هُيامَه … بِغَرّاءَ مَا غَنَّى الحَمامُ وأَنْجَدا
وفي قول أحدهم يخطف أبصار الحقيقة:
رَمى قلبَه البَرْقُ المُلالِيُّ رَمْيةً … بذكرِ الحِمَى وَهْناً فباتَ يَهِيمُ
فيا ليتني كنت البرق حيث أرمي بسهم غير رام !!؟