“رباط المتنبي ” .. إشكالات الهوية وتناقضات المجتمع في رحلة ذهنية عبر الزمن
تمهيد:
لماذا يعود المتنبي إلى الرباط بعد أحد عشر قرنا من وفاته مقتولا في العراق ؟ لم يكن هذا السؤال ليثير اهتمام أحد سوى اهتمام رجل دولة حينما يجد تشابها بين مسار حياته ومسار حياة المتنبي، أو اهتمام مؤرخ يقرأ مسار التاريخ قراءة نسقية، فيعقد مقارنات لينتبه للمشترك ويبحث عن المتغيّر، أو اهتمام أستاذ للعلوم السياسية في مجتمع يستعمل لفظ السياسة للمناورة والاحتيال والاغتياب،مجتمع مغلوب على أمره ويبكي على الأمجاد بكاء المتنبي على أخت سيف الدولة ويبحث عن مجد زائف كبحث المتنبي عن المجد قُرْب كلّ من سيف الدولة الحمداني وكافور الإخشيدي بعدهُ.
سنحاول فيما يلي تقديم مجموعة من الإشارات الأولية، التي استوقفتنا خلال قراءتنا لرباط المتنبي مرورا بالعنوان، وحدود الجنس، ومتن الحكاية، وبعض الإشكالات النظرية المرتبطة بتناقضات المجتمعات العربية بشكل خاص.
- العنوان وآلة الزمن.
رباط المتنبي مركب إضافي يُفيد التعريف، ويحيل ثقافيا إلى آلة الزمن الشائعة في روايات الخيال العلمي، التي نشأت بالغرب منذ 1895 مع هربرت ويلز( 1866/1946 ( Herbert Wells، خاصة في روايته ” النائم يستيقظ ”، التي تحكي قصة رجل ينام مدّة قرن من الزمن، ليستيقظ في لندن ويجدها قد تغيّرت تماما، فهل تغيّرت الرباط عندما حلّ عليها المتنبي ؟ وهل وجد المتنبي ثروة هائلة تنتظره كتلك التي وجدها بطل رواية الخيال العلمي ( The sleeper Awakes) بسبب فوائد بنكية ؟
السفر عبر الزمن في رباط المتنبي مفتوح على افتراضين، فلربّما حلّ المتنبي على عصرنا أو لربّما نحن من نعيش عصر المتنبي في جوهره، هذا ما سنكتشفه مع بشرى في النص، وهي زوجة السارد، التي عاش معها حالة حب ثم فتور، فجفاء في زمن تسلسلي تتخلله العديد من الاسترجاعات أو المواقف الممشوقة على ذاكرة السارد الثقافية والسيرية ( السيرة الذهنية). إنّها رغم كلّ هذا جزء من الهلوسة أو الذّهان.
رباط المتنبي مركب من كلمتين، المتنبي والرباط، العلمية والتعريف، هذا ما نجده في الاسمين معا، لكن ألا يمكن أن نجد مسوغات أخرى لهذا المركب الإضافي ؟
تزوّدنا الذاكرة الثقافية بسيرة المتنبي، ذلك الشاعر العباسي (303ه/354ه)، الذي تكسب بشعره وعاش مجمل حياته في التنقل من بلاط إلى آخر طلبا للاعتراف.أمّا الذاكرة السردية، فنستجمع فيها ملامح لعلاقات السارد بالمتنبي قبل العود وبعده، أي: المتنبي كمحتوى تعليمي، والمتنبي كضيف عزيز حين الجنون الحكيم، الذهان بلغة علماء النفس.
أمّا الرباط، فيزودنا المعجم بدلالات عديدة، ومما ورد في اللسان استجمعنا معاني دالة على المواظبة على الأمر وملازمته والخلوة وملجأ الزّهاد والمتصوفة، وكلّها دلالات تجلت في متن المؤلف. أمّا التاريخ الوطني، فيخبرنا أنّ الرباط هي عاصمة المغرب التي بناها الموحدون وفازت بالمرتبة الثانية في قائمة (CNN)، كأحسن المقاصد السياحية سنة 2013، أ لهذا قصدها المتنبي شتاء 2017؟ الخطاب لا ينسى، فهذا ما سيخبرنا به السارد حينما تنكر الكاتب للأنا، وامتطى الإشارة ب ” هو ” في القسم الثاني من المؤلف.
المتنبي حلّ بالرباط أم الرباط عادت لعصر المتنبي، فما الذي جاء به ؟ المتنبّي أحيل على الرباط، فما سبب الإحالة ؟ الرباط .. المتنبي .. أشياء يصعب فهمها ما لم يكن القارئ مشحونا بثقافة موسوعية لا بأس بها مع مسّ من الجنون الحكيم.
رباط المتنبي إحالة إلى رسالة الغفران لأبي العلاء المعري وإلى الكوميديا الإلهية لدانتي بعدها. المعري يسافر بالمتلقي إلى المثل وينقل أحوال البشر بين الجنّة والنار أمّا دانتي، فيسافر ببطله نحو الكمال والأصل … الحقيقة الواحدة. بين المعري ودانتي علاقة، يقولون: إنّ دانتي أخذ الفكرة عن المعري كما قيل إنّ المعري عُرف بالكوميديا الإلهية. الشق الأول من علاقة المعري بدانتي لا يستسيغه السارد في رباط المتنبي، فمسألة النقل ترهة في نظره.
بين رسالة الغفران ورباط المتنبي علاقة وطيدة إذن، فالمحاكمة أسُّ رسالة الغفران والمحاكمة المضمرة للماضي والحاضر جوهر رباط المتنبي. كلاهما يبحثان عن الحقيقة رغم تصنيفاتهما، لكن هل تكفي النصوص لمحاكمة الماضي ؟ ونحن نعلم أنّ أحكام المعري كانت بناء على ما قيل وهل يحق الحديث عن تاريخ حقيقي في حاضر تزوّر فيه الحقائق أمام أعيننا في الإعلام ومنابر أخرى لا يسمح الظرف بذكرها ؟ كلّها أسئلة تجد لها إجابات في متن رباط المتنبي كشف عنها اللاوعي الحكائي.
- رباط المتنبي وقيود الجنس الروائي.
أشمئز من أولئك الذين يقيسون جودة عمل أدبي ما بالاحتكام إلى قيود رجعية وضعها بائعو الوهم أو من نصبوا أنفسهم أولياء على الأعمال الإبداعية، التفاهة صفة تليق بهذه القيود، لذلك أعتبر أنّ التحرر من هذه القيود أوّل أمر يجب أن يوليه المبدع أهمية قصوى، أنْ يكسّر أفق الانتظار حتى لا يسقط في شرك النمطية والاجترار.
النص رواية نظرية، الزمن فيه غير الزمن والمكان فيه غير المكان والقوى الفاعلة ذهنية والرؤية السردية صعبة المنال، إنّه نشاز روائي يرقى إلى مستوى التأسيس لصنف جديد من الكتابة يمكن أن نسمّيه بالحكاية النظرية، وهو النمط الذي كتب فيه الكاتب الإسباني خورخي لويس بورخيس والكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو والجاحظ قبلهما. الحكاية النظرية أو أسلوب القراءة في الأعمال التخييلية. العمل التخييلي في رباط المتنبي ليس كتابا، إنّما هو سيرة ذهنية لرجل قريب من الواقع العربي الهش والرديء، إنها هلوسات رجل دولة ومؤرخ وأستاذ للعلوم السياسية كما عرّف بنفسه في متن ” رباط المتنبي ”.
لا يمكن أن نقرأ رباط المتنبي دون أن نجد إحالات عميقة لقضايا الوجود والإيجاد ومساءلات فريدة للمرئي والغيبي، الحضور والغياب، الثابت والمتغيّر(…)، إنّه عمل حكائي نظري يُذكرنا ب ” هكذا تكلّم زاراديشت ” لفريديريك نيتشه. فهل يمكن قراءة رباط المتنبي للمتعة ؟
لا يمكن أن تنطلي علينا حيلة الناشر، بوضع كلمة رواية على غلاف المؤلف، لكننا نجد قول الكاتب مقنعا حين أشار في تصريح لأحد المواقع ( العمق) بالقول، إنّه يقدّم شخصية المتنبي الإشكالية في قالب فنّي بما فيه من مضمر قصد التشويق والمتعة، هذا المضمر، هو الذي يرقى بالعمل إلى مستوى الحكاية النظرية، التي تؤصل لرؤية إشكالية صوب الوجود العربي الرديء وارتباطاته الميتافيزيقية الحاضرة بقوة في متن ” رباط المتنبي ”.
لكن، هل إعادة المتنبي إلى الرباط تسديد لدين منبعه القلب أم مطيّة للعقل؟ العاطفة تضايق الذكاء في هذا السؤال، لذلك، سنسلّم بالأمرين معا.تسديد لدين وخلفية للتعبير الجميل. ما دمنا نؤمن بتعريف الجمال في الميطولوجيا اليونانية، باعتباره دالا للفائدة والمتعة، الشيء الجميل هو الشيء الممتع المفيد.
- المتن الحكائي في ” رباط المتنبي ” إشكالات الهوية وتناقضات المجتمعات التائهة.
- القسم الأول:
يبدأ المتن السردي في رباط المتنبي بتقديم المكان، وهو شقة السارد المطلة على محطة القطار في الرباط، يُطرق الباب، فيدخل الضيف، ضيف غير معتاد، لا ينتمي لقائمة الضيوف الذين نتسارع لنحضر لهم المأكل والمشرب والملبس، إنّه ضيف إشكالي مستفز يعود بنا إلى القرن الرابع الهجري، لم يكن الضيف سوى أبي الطيّب المتنبي.
بقدر ما يبدو الأمر مثيرا للسخرية والدعابة بقدر ما سيبث الرعب في قلب الخادمة، التي ستكتشف هذا الضيف، فيبدأ عرض طويل للعادات المرتبطة بالجهل، والزواج والطلاق والأشباح والجن (…)، وكلّها أمور وجدت طريقها إلى العقل العربي وليس إلى ” رباط المتنبي” فقط.
يوصي السارد ضيفه بملازمة الشقة وعدم مغادرتها، وهي الوصية التي تذكرنا بقصة ضيف إبراهيم وقصة طرد آدم من الجنّة قبلها. الضيف ينكت بوعد لم يقطعه، فيغادر المكان صوب البرلمان. القبّة التي يحج إليها الشباب طلبا لشيء ما ضروري، لم يسلم المتنبي من الاعتقال، فاقتيد إلى مخفر الشرطة وإلى مستشفى الرازي للأمراض النفسية بعد ذلك، وهذا أخف من متابعته بقانون الإرهاب، فالمعتقل هو المتنبي وأشعاره تتغنى بالدم والسيف والإنسان الأعلى، كلّها أمور يعاقب عليها القانون في يومنا هذا، المتنبي لا يعلم هذا الأمر.
لم ينس السارد ضيفه، كما ننسى العديد من مجانيننا اليوم. فواظب على زيارته والوقوف على احتياجاته في أفق السماح له بمغادرة مستشفى المجانين، وبعبارة محترمة، مستشفى الأمراض النفسية.
أحداث بسيطة تتخللها العديد من المعطيات المرتبطة بالتاريخ والهوية وصراع الحاكم والمحكوم والظلم والجور والهوية المختلة وثنائية الأنا والآخر والحاضر والماضي. أسئلة كثيرة يطرحها السارد الإشكالي في حضرة المتنبي الإشكالي وفي غيابه، يصعب حصرها إن لم نقل يصعب فهم المقصد من تناولها، فالمتكلم وحده من يعرف الحقيقة وقد يناور.
ما الذي تغيّر ؟ المتنبي حلّ على زماننا، ونصوص كثيرة تخبرنا عن زمانه، وأشعاره خير شاهد على تلك الفترة. ” لم يتغير شيء، القرامطة غيروا اسمهم وأصبحوا داعش، والبويهيون استولوا على بغداد، والسلاجقة ينازعونهم … وسيف الدولة وهو ناصر، انتهى إلى بوار والممالك ككافور تولوا الأمر بأساليب جديدة وطرق ملتوية.” لم يتغير شيء، هذا ما نستنتجه، ليخبرنا الكاتب في الصفحة (23) أن ما تغيّر هو هذا التطاول في البنيان، والمعمار والتكنولوجيا، وهو سؤال طرحه المتنبي على مستضيفه.
المتنبي الذي عاصر فترة أفول الثقافة العربية وصعود القوميات الأخرى، حلّ على الرباط والعرب لا يزالون كما تركهم، قبائل تتناحر، وغاية الدين أن يَحُفَّ المسلمون شواربهم، والجهل مستشر والأعراب كما عاهدهم. أمّا لغة العرب، فقد هجرت، لم يعد لسحر الكلمة حضور، فقد حلت لغات أخرى محلّ العربية لأنّها ليس وسيلة عيش وعمل وتقنية وتفكير كنظيراتها.
في مستشفى الرازي، حيث يقبع المتنبي، تثار قضايا وتُجسد جلسات فكرية، ابن جني وكافور كانا حاضرين، الطبيبة والسارد أبطال، الحب ..الخيانة .. الصراع…الهرب من شبح العنوسة.. المكائد، حتى مستشفى المجانين لم يسلم من هذه الآفات التي تنتشر خارجه.
- القسم الثاني:
يستفيق البطل في مصحة بوسيجور، ضمير الحكي لم يعد هو الأنا، صار الحديث عن الهو، لم تسعف الكاتب الضمني أناه، فقرر أن يتخفى وراء شخوصه، وهو الذي تخفى خلف ضيفه طوال القسم الأول، ليخبرنا عن واقع الرباط وواقع الأمة العربية وشبه سيرته لسيرة المتنبي، ألم يقل في الصفحة (14) ” قرأت بعضا من شعر المتنبي لمّا كنت يافعا، وكنت أؤمن بسلطان اللغة، وأؤمن بالعرب، وأؤمن بيقظتهم ونهضتهم وقضاياهم، أمّا الآن، فلم أعد أؤمن بسحر اللغة ولا بسلطان البلاغة ولا بقوة الفكر ” يضيف في الصفحة (15) الفكر لم يعد شأن العرب، ولم أعد أؤمن بشيء يميزهم أو يبعث على الأمر منهم وأنا أرى ما آلوا إليه. يذكرنا هذا القول كقراء بقول بيترارك : ” لا أريد أن أسمع شيئا عن عربك، العرب .. العرب.. لا يمكن تصور شيء عظيم قد يأتي من العرب، الاستشراق والاستشراق معكوسا.
قد تنتقلا لهلوسة التي أصابت الأستاذ إلى القارئ، فالسرد يوحي إلى شيء جديد في القسم الثاني، يحتفظ الكاتب الضمني بالجوهر ويبني حكاية داخل حكاية. المتنبي هو السارد، كلّ ما حكاه في القسم الأول مجرد هلوسات، لا وجود لخولة وخيانة المتنبي له غير مذكورة، إنّها مجرد تهيئات كما أخبرته الممرضة جميلة، كلّ ما حكاه يدخل ضمن العلاج، التداوي بالسرد، التداوي بالأعشاب والتداوي بالفلسفة، اختاروا معالجته بالسرد.
” المتنبي لم يزرك في الرباط، إنك مريض بالذهان .. بالهلوسة، أنت الآن قابع في مصحة بوسيجور”..
المتنبي أنت … أنت المتنبي. ألم تقل في القسم الأول إنّه كان يترصدك واقع كالح وقد عدت إلى الرباط، من تهم بالعمالة وأنباء عن الخيانة ونضوب مورد رزق، لقد كنت متمردا ومخربا وعلمانيا وكلّها صفات تشارك المتنبي فيها. دخلتَ السجن وسُجن المتنبي وتمردت على وضع مأفون ودعوت للثورة وكان حال العرب يسيئه كما يسيئك الآن، فما الذي يمكن إبعاده من هذا إذا قرأنا المتنبي ؟ أنت المتنبي ..
لن يمسك سوء منّا أيّها الكاتب الضمني ولن نتهمك بالجنون، فالبنية لم تتغير وحال العرب هو هو، لم يجد الفكر ولا اليقظة ولا التنوير ولا النهضة طريقها إليهم .. كهرباء وسيارات وبنايات شاهقة وكومبيوترات تحتضن بنيات ميتافيزيقية وصراعات بدائية بين الحاكم والمحكوم. يقول السارد على لسان المتنبي الجديد ” جزء كبير من مشاكلهم( العرب) هو أنّ لهم فهما تقريبيا للأشياء، يفهمون الديمقراطية بشكلها لا بروحها والتطور بمظاهره لا ببنيته .. لغة غير دقيقة .. بنية ذهنية مضطربة .. الغلبة للمعتقد لا للعلم ”.
إنّ ما آلت إليه أوضاع العرب اليوم لنتاج تراكمات، لقد ورثنا عن آبائنا ديانة وتقاليد وتآليف ومعارف وقصائد شعرية وقصص بطولية(…)، لم نتكلف عناءتكييفها تكييفا سليما، لم نخضعها لميزان العقل والعلم. لقد اكتفينا بتمجيد الأموات وعيش حاضر لا وجود لسيزيف فيه، سيزيف جلس في السفح ينتظر الصخرة التي تتدحرج من الأعلى صوبه. هذا ما يمكن أن نقوله عن مجمل ما قاله المتنبي الجديد في القسم الثاني.
ينتهي القسم الثاني بفرار المجانين، المتنبي ، كافور، جميلة، ابن جني، فنيش (…)، لم يخلفوا وراءهم غير رسائل. ينتهي القسم بوعد بانكشاف اللعبة ولو على المدى البعيد يقول السارد ” لا يمكن للحقيقة ألا تنكشف … حقيقة المجانين والرباط وماجور الرباط.”
مداخلة قدّمت في حفل توقيع رواية ” رباط المتنبي ” للكاتب حسن أوريد، المركز الثقافي بزاكورة، فبراير 2019.