مرت كل تلك السنوات العجاف، حاملات معهن أرواحًا قد سكنتنا ثم ذهبت بعيدًا دونما انتظار، اسمحي لي هذه المرة أن أذكرك بتلك الأيام القاسية، ولا تعذليني لكن الذكرى لابد لها من أن تعود إلى آلة العرض في رؤوسنا، أعلم أنك ستستنكرين علي ذلك، لكن لعل ضميرك يؤنبك اليوم نتيجة تخاذلك واستسلامك.
كنت طفلًا صغيًرا في السادسة من العمر، لا أذكر إلا القليل من حياتي مع والدي، حيث كنا عائلة تعيش في ريف يرتدي ثوبًا باللون الأخضر البديع، وكان والدي يعمل في الزراعة وأمي تخيط الملابس، كنا عائلة بسيطة وكذلك أهل حينا، وفي كل زاوية من هذا الحي تجد الضحكات متناثرة، والأطفال منتشرون.. يتراكضون ويلعبون الألعاب المختلفة، كنت في السادسة لكنني لا زلت أذكر أصدقائي هاني وخالد وأحمد، وأذكر كيف كنا نلعب الكرة مع باقي أطفال الحي، ونرتشف من بحور العلم معًا في مدرسة واحدة، وبعد انتهاء الدرس نسير في طرقات ريفنا ننظر إلى الألوان الزاهية المنتشرة فيه، الأشجار التي تسكنها العصافير ملونة الريش، والحشائش الخضراء المرقشة بالزهور ذات الألوان المختلفة، لكن هذه الحال ما لبثت إلى أن تبدلت؛ فقد تحول لون السماء إلى السواد في الليل والنهار، وطغى هذا اللون على كل زاوية في هذا الحي، النيران تسير وتحرق الأخضر واليابس، والأصوات المختلطة بين الصراخ والنحيب تخرج من كل الجهات، كانت السماء تمطر علينا من الفسفور والغاز…
إنهم الأعداء يا سادة، الأعداء الذين اجمعوا علينا معكم ورمونا في الغياهب، وهربًا من هذا الجور والظلم خرجت مع عائلتي، لكنني لم ألبث معهم إلا أياما وبضع يوم.
أشكر لكم صحوة كاميراتكم فصورتي التي وثقتموها لا زلت أحتفظ بها وأرمقها بالنظرات يومًا بعد يوم، لا زلت أحتفظ بذلك الكيس الأصفر المُزين بالورود، أتراه إيحاء بأن ماضينا المزهر سوف يعود؟!
على أي حال فإنه الذكرى الوحيدة من عائلتي التي فقدتها أثناء سباتكم، كنت صغيرًا لكنني لا أزال أذكر محاولاتي في إيقاظ أحدهم ولكن بلا فائدة، إنه شبح الموت الذي ألقيتم بنا إليه لتعيشوا بسلام آمنين، لقد فصلت الأرواح عن الأجساد وتوقف عندهم الزمان، وبت وحيدًا مُلقىً على قارعة الطريق بلا مأوى ولا ملجأ ولا صاحب يمسك بيدي للمسير، فأكملت أقطع الدروب، أتذوق المنايا، وأواجه الرزايا بلا أمل، أذكر يومها أن شبح الموت كاد يختطفني لكنني حاربت كي لا أموت، كنت أطمح للحياة، يا لحماقتي التي أجهلتني أن أعي أن الموت أرحم من غوغائيتكم وأنانيتكم أجل الموت يعذبنا مرة، ويخطفنا مرة واحدة، أما أنتم فتستلذون بعذاباتنا وأوجاعنا وذوباننا كالشموع بعد الاحتراق..
كم أتمنى لو مت مع أهلي يوم ماتوا دفعةً واحدة، ربما لم أكن لأكتب لكم اليوم وأريكم حقيقتكم وتفاهة عالمكم إذا رأيت جنة ربي، لكنني وببالغ الحزن أتذوق طعناتكم وطعنات الأسى، وأنتم لا تلتفتون.
حقاً فالحياة بلا أهل موت مجزَّأ، والحياة بعيدًا عن الوطن موت، وسبات ضمائركم موت، وكل زفرة أسى في الحشا موت..
كبرت اليوم وعدت إلى وطني المنسي، عدت وحيدًا بلا عائلة.. بلا أهل ولا أصحاب ولا رفاق مدرسة، بلا حنّونة الطريق التي كنت أسلم عليها كل صباح، لكن عادت معي أصداء الضحكات التي بت أسمعها من جديد في الزقاق، عاد لون الخضار رغم السواد الذي تركته الأيام، والأطفال يركضون ضاحكين رغم ركام المباني التي سنبنيها بأيدينا من جديد، سرت نحوَ ركام بيتنا ومرت أطياف أفراد عائلتي بجانبي فتخيلت أنني أسمع أصواتهم من تحت الركام، مرت أطيافهم مسرعة نحو السماء فرفعت بصري مع الخيال وابتسمت لقد عاد اللون الأزرق، ثم نظرت تحت قدمي فوجدت فسيلة خضراء صغيرة قد شقت طريقها من بين الركام لتعلن ولادة الحياة من جديد، فعانقتها، وقبلتها وغرستها .. لم أكن أحمل ماءً لأسقيها، فجاءتني رصاصة متعطشة، سال الدم مني واستقر على ساقها، وصار الدم ساقيها.