“وصية [ السبعينيّات ] ” العربي الحميدي

السّبْعينيّات كلمة تخفي تحتها قفاف الزمرد والماس. كلمة وحيدة تسمى جيلا وذات جماعية في آن. سبعينياتمغرب القرن العشرين. ألف لوعة ولوعة. لو كنت من أهل الحنين لشهقت، ولكني بحجة حاضر الأيام، ولربما ومستقبلها المريب، أتوقف، وأتأمل، قليلا، حتى لا تصيبني شظايا الزمن…”

لست أدري أنعيش في زمن رديء، وهل نحن محبطون، ومكبلون، ومات الحلم الذي راودنا مند الطفولة. وهل على الدرب نفسه سوف يسير الجيل الحاضر، وسوف تسير الأجيال القادمة، في ظل هاته اللامبالاة من بعض المثقفين. و هل سوف تستمر هاته الطبقة في إهانة الوطن والإنسان.

يقول الأديب محمد بنيس:

“أوراق السرخس الجبلي أوراق المدائح في لغات الصامتين الذين عثروا على مقام هناك”.

إن صورة المثقف المثالي الذي يعد الهدف الأول والأخير لتقدم المجتمع، ليست واحدة، وهدفا لدى الجميع. ربما قد لا يشعر المثقف بأزمة الثقافة  إذا لم يعزل نفسه عن دوائر الجدب السياسي والمالي، والأيديولوجي.

يقول الشاعر محمد بنيس في ” تهبط إلى الجحيم”:

أنْصَتَ جيلي إلى المثقفين المغاربة، باللغة الفرنسية، هؤلاء الذين حرصوا على قوة خطابهم، ضمن بنية تختلف فيها طبيعة ونوعية الإنتاج الثقافي في الرباط عنها في باريس. أنصتنا إلى بيروت، وعبر مجلة مواقف، التي جددت الخطاب الثقافي العربي، إبداعا وفكرا. وفي كلتا الحالتين، كنا نبحث عن فضاء شخصي لممارسة فعل ثقافي، تستوطنه منعرجات رغبتنا في الإبداع والسؤال والتغيير. فنحن منحدرون من يتم جماعي. وبعربيتنا الحديثة كنا نتبادل أنخاب حلم يضيء، من حدود الجرأة إلى حدود المغامرة”.

“كنت أهبط. والقريبون، من الكتاب التقدميين، كانوا يشحذون سكاكين العداوات، والحقد، ويصلون الجنازة بالجنازة. كانوا  يستعملون لغة تدافع عن تقدميتها بقتل من يختلفون معه في الرأي. إلى الجحيم اهبط أيها المغرور بضوء الأخوة! وأهبط إلى حيث ينتهي صخب المسكون بالجماعي، بعد أن عشت في شبابك حياتك الفردية، المنعزلة، لا ينازع فيها  أي شخص! فلا أنت نحن، اليوم، ولا نحن إخوتك. هكذا كانوا يرددون، أولئك التقدميون. جحيم و دم. لأنك آمنت بما لم نتعود عليه”.

من الصعب في عصرنا الحاضر على المثقف أن يعيش في عزلة عن الأنظمة والتنظيمات المحيطة به. فهو يتأثر باستمرار بالتيارات الداخلية والخارجية، في عالم يتغير بوثيرة متسارعة، لا يمكن للمثقف أن يستقر فيها على رأي أو موقف إلا إذا كان ذا جلد. وقادر على استيعاب مفهوم الثقافة العالية المستوى.

لأن الثقافة لا ترتبط بدرجة التعليم أو نوع الشهادة المحصل عليها نتيجة دراسته لتخصص معين، فلا يعتبر من يحمل الشهادة مثقفا بشكل تحصيلي. لأن من يحملونها ليست لهم القدرة على الحوار. فالشخص المثقف هو الذي يناقش في مختلف أمور الحياة دون تعصب لرأيه.

إذا كان التنوع سنة الحياة المتمثلة بصورة جلية في الأنواع الحيوانية والنباتية التي تعمر الأرض في تفاعل مع بعضها، فإن الانضباط هو الآخر سنة من سنن الكون الذي يخفي على الكثيرين من أسراره، كما يتجلى في نضام برمجة الخلية في مركزها، فهي تعمل  بانضباط.

في ظل وجود الأضداد وهذا أمر طبيعي، يتوزع الطيف الثقافي إلى يسار ويمين ووسط، وداخل كل طرف يتوزع المفكرون والكتاب إلى أقصى اليسار وإلى أقصى اليمين. والسؤال المطروح، هل أفلح مثقفونا في إنشاء آلية تنظمها المبادئ والقوانين الأخلاقية. حتى لا تصبح الحرية الثقافية فوضى أخلاقية.

يقول الشاعر محمد بنيس:

“بالشكوك أكتب، بالشكوك لا أكتب. هذا هو الرهان. وهو العقد الذي يهدم الأسوار ويضعها في  الإثبات والنفي. مصير الكتابة  يتقرر خاضعا لمسار يستمر ويتبدل في آن. هل هناك ما يدعو للاستنكار؟ سؤال أوجه لنفسي، وأنا أنزل الدُّرج تابعا، بحراسة الشم وحدها، نقط العبور المختصرة صوب الحديقة.

الكلمات لها دلالات، والدلالات لها معنى. هكذا أقرأها في كتابات الأديب محمد بنيس.

إنه مثل رائد، وتفرد قل نظيره في المثقفين العرب القلائل الذين يمتازون بهذه الخاصية. إنه لا بنجر خلف التيارات الجامحة خاصة منها السياسية. حيت حرص على البعد عن السلطة، لإيمانه بأن الناقد عليه حماية حريته الفكرية من أي تأثير، أو تدخل، أو تبعية لأي سلطة، سواء كانت حزبية أو ثقافية، أو سياسية.

يقول  الشاعر محمد بنيس:

“كيف تتجرأ على النطق بما تكتشفه من أشكال اللعبة؟ خطاب المعارضة موجه ضد المؤسسات الرسمية، ضد الدولة، وضد قبائل مصنفة ضمن اليمين. ولغة قبيلة اليسار ناطقة بسلطة الأيديولوجيا. لغة جاهزة عن وضع جاهز. وأنت؟ وأصدقاؤك؟ ووعد الكتابة؟ وصباح الحرية؟ وقدر أن تكون أو ألا تكون؟ وغياهب الصمت؟ والحاجب؟ والمحجوب؟ أسأل أيضا: أكل هذا الخنق لمنع الكتابة وحريتها؟ أكل هذا جزاء تمردك على مجتمع، وقيم، وثقافة، ورؤية، وحياة؟ كيف أستبدل عبودية بعبودية؟ بل كيف أتمرد على عبودية رحيمة من أجل عبودية لا اختيار فيها بين الطاعة والسوط أو السيف؟…. وأنت المخلوق من كلمة الحرية”.

كأنه يكره الذين يتحركون في الظلام، ويفتعلون معارك وهمية. يعرف أنهم جماعة من المثقفين المنبطحين، والمنافقين. ويعرف جيدا ما يدور في الكواليس. فانسحابه  من اتحاد كتاب المغرب، كان إشارة قوية للكتاب. كأنه يسألهم هل أفادت جهودكم في تنمية الثقافة المغربية؟

أشك في أن هؤلاء الكتاب الكبار قد سألوا أنفسهم ولو لمرة واحدة لمن يكتبون.

لقد غالوا في إضفاء روح الأنانية القومية والأيديولوجية، وغالبا ما يكتبون ما يقدمونه بطريقة فيها حيف، أو منحرفة يصعب على الكثيرين فهمها للتناقض البين في طرح المشاكل والمعيقات. فكانت النتيجة انصراف القارئ الحر عما يكتب. كل هذا ساهم في بلادة الفكر، والإحباط، واللامبالاة مع سلبية تامة. وهاته مأساة أفظع.

إذا كان الأديب محمد بنيس يبحث عن مخرج في حديثه مع نفسه أو مع نفس المتلقي، حيث يقول “بأي حيرة علي أن اكتب؟ بأي حيرة أنطق أو أناجيك أنت يا أنا؟

فإن مصدر هذا الحس هو المعرفة التي يمتلكها و القادرة على اختراق الحواجز.

حيت يقول:

“يطوف، اليوم، بي صامتون وموتى، ولي شيء من مآلهم. تضفي الكلمات كذبا على الكذب، تتباهى  باللباقة والديمقراطية التي تخشاها السلطة. وأنت في الغياهب، والسوط، والدم. مثقفو المعارضة يتناولون على جلدك. مثقفو القبيلة يجلدونك.  وها أنت في الغياهب. وهذا. التاريخ. الذي. لا. أحد. يكتبه. ولا أحد يجرؤ على تمزيق الحجاب”. إلا يحتاج هذا المثل الذي يعبر على فكر راق إلى الاقتداء به.  ليمكن بعض المثقفين من طرح مثل هاته التساؤلات، لمعرفة حقيقة الثقافة. ونشر المعلومة بطريقة مجردة. حتى يتسنى للقارئ تحليل المواقف، و الرؤى بطريقة صحيحة.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي

د.حسن بوعجب| المغرب             لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات