صحيح أن ثلة من النقاد العرب ، لا يدّخرون جهدا في رسم ملامح أفق مغاير وجديد ،على المستويين التنظيري والتطبيقي في حقل النقد المتسلح بالنظريات والمفاهيم الغربية ، بغية تكييفها ،وربما إخضاعها لمناخات الإبداع العربي الذي له خصوصياته ومميزاته ، بكل تأكيد،بيد أنها محاولات إسقاط ،ما تنفكّ تضع النقد العربي في قفص الدوخة ، وقلما تجترح نوافذ حقيقية ، لانتشال هذه التجارب النقدية من جدلية الانتماء إلى الذاكرة النقدية ،وهواجس التأسيس لنقدية تدع عادة اجترار التنظير الغربي ، القبيحة ، إلى اجتهادات نابعة من واقع استنطاق النص الإبداعي العربي ، في مختلف التصنيفات الأجناسية ،والاصطدام المباشر معها كمنجز مستقل عمّا سواه ، ويستدعى توليدات لا أقول أنها انطباعية أو ارتجالية ، بقدر ما تنطلق من فهم دقيق للنقد الغربي على تنوع مراجعه.
مختصر القول ، أننا بأمسّ الحاجة إلى نقدية عربية من داخل النص العربي ، تنأى عن عشوائية الإسقاطات ومرضية التكييف،على نحو يستبعد أزمة القراءة ، ويتجاهل راهن تفاقم وثيرة الوباء الفتّاك الذي يسمّى الأمية التي تنخر كيان الشعوب العربية قاطبة .
الناقد المغربي والعربي سعيد يقطين ، من ألمع الأسماء التي أخذت على عاتقها مثل هذا العبء تنظيرا وممارسة ، وإن رام من خلال نقديته بساطة المعجم في ما يشبه الترجمة النسبية للتنظير الغربي ،والمعززة بمواقف صريحة وجريئة ، تهدف إلى اختلاق بصمة والجة في دائرة ما أشرنا إليه ،من ضرورة القطع مع الكلاسيكيات النقدية العربية التي قد تعيق مستقبل تطوير أو بالأحرى توسيع النقدية العربية ، اللهم ما يخص الصفحات المضيئة من انتسابنا للذاكرة الزاخرة بالموروث في صبغته الكونية ،وكيف أنها تضمن له ثقافة الشيوع والخلود والأبعاد الإنسانية .
يعتبر محمد بنيس ، أيضا ، من الرواد الذين أثروا المعجم النقدي العربي ،بروح النقدية الغربية ،باعتماد موسوعية الاستيعاب والالتقاط والاستقطاب ، وإن كان مستوى بنيس أعلى نوعا ما ، من حيث الوقوع في فخ الضبابية والتعقيدات التي تحول دون إكساب النقدية العربية هويتها واستقلاليتها التامة.
يتطرق سعيد يقطين ، في كتابه ” تحليل الخطاب الروائي : الزمن ــ السرد ــ التبئير ” إلى جملة من النقاط المتناغمة وطرحنا ، معتبرا أن انبثاق النقدية العربية ، يجدر أن يتحدد ويتم من اختصاصات تتيح له النفس التصاعدي في تكييف النظريات المستوردة ، عوض التعميمات والكليات التي تثقله وتورطه أكثر بمعرّة البينية ،إذ تقوي لحمته بالذاكرة المتشبعة بالمتجاوز والكلاسيكي ، كما تسمه بطابع التبعية العمياء لمدارس ومذاهب النقد الغربي.
يستهل الكتاب في طبعته الرابعة2005 ، والصادر عن المركز الثقافي العربي ، بمدخل إلى تحليل الخطاب الروائي موردا زخما من أمثلة استفادته من التحليل اللساني المبهر بثورته ومنحاه العلمي المتسارع ، مع الشكلانيين الروس ،مرورا بالعديد من الاتجاهات المتمحورة على مفهوم البويطيقيا وما يشكل له امتدادا من آليات شغلت النقدية الغربية على مرّ الزمن ،وإلى الآن ،ضمن حدود تجاور الخطابين ، التاريخي والروائي .تبعا لأطوار الانتقال من النحوي إلى الدلالي ، يقول :
[ نسلك في تحليلنا هذا مسلكاً واحداً. ننطلق فيه من السرديات البنيوية كما تتجسد من خلال الاتجاه البويطيقي الذي يعمل الباحثون على تطويره وبلورته بشكل دائم ومستمر ، وعبر تتبعنا للعديد من وجهات النظر داخل الاتجاه نفسه ، حاولنا تكوين تصور متكامل نسير فيه مزاوجين بين عمل البويطيقي وهو يبحث عن الكليات التجريدية، والناقد وهو يدقق كلياته ويبلورها من خلال تجربة محددة.في تحليلنا للخطاب الروائي وقفنا على ثلاثة مكونات هي:
1 ــ الزمن.
2 ــ الصيغة.
3 ــ الرؤية.].
بعد ذلك يوزع المؤلف إلى فصول ثلاثة ،يفتتحها بمقدمات نظرية حسب مقتضيات المقال ،فيتحدث وبإسهاب في الفصل الأول عن العناوين العريضة التالية :زمن القصة ، زمن الخطاب / التمفصلات الزمنية الصغرى / خصوصية زمن الخطاب { الزيني بركات } / الزمن بين الخطاب التاريخي والخطاب الروائي / الزمن في الخطاب الروائي العربي .
معتبرا مقولة الزمن متعددة المجالات ، وكيف أنها تخطت التقسيم الفيزيائي المحدد في أبعاد ثلاثة : الماضي / الحاضر / المستقبل . وأن دوالا من قبيل ” الآن ” و ” قبل الآن ” و ” بعد الآن ” خلخلت العلاقة بالزمن وفتحته على مفاهيم أخرى موغلة في اللانهائي واللامحدود ، مع ربط الممارسة الإبداعية والتجربة بفضاءات المضارعة أو الحاضر باعتباره محتوى المادة ، بصرف النظر عن الخطاب الذي قد ينجزها.
تقول ” كينان ” : النص هو موضوع القصة فيما الخطاب يتم به الإنجاز ” .
كما يسلط يقطين الضوء على محاور تعنى بصيغة الخطاب الروائي ، في الفصل الثاني : تعدد الصيغ ، تعدد الخطابات / اشتغال صيغ الخطاب / خصوصية الصيغة في الزيني بركات / الصيغة بين الخطاب التاريخي والخطاب الروائي / صيغة خطاب الرواية العربية.
يقول بهذا الشأن: [ ويربطنا ما رأيناه الآن حول خصوصية الصيغة في المتن، وما رأيناه حول الزمن ، تتكشف أمام الناظر أهمية الصيغة كمكون خطابي يساعدنا ليس فقط على تجسيد خصوصية الخطاب الروائي وبنياته ولكن أيضا وهذا مهم ، يمكننا من تدقيق تصونا حول الأنواع الأدبية وحول تاريخ الأدب…].
ليختم بفصل ثالث حول الرؤية السردية في الخطاب الروائي،متناولا باقة من المفاهيم : تمفصلات الرؤية السردية الكبرى / تمفصلات الرؤية السردية الصغرى / خصوصية الرؤية في الزيني بركات / الرؤية بين الخطاب التاريخي والخطاب الروائي / الرؤية السردية في الخطاب الروائي العربي.
مؤكدا كيف أن الخطاب الروائي الجديد، استطاع قلب المعادلة فتوجه إلى المتلقي معتما ومتوترا ،كضرب من استفزاز ، لا بد منه ، ومحرضا إياه على التأويل والتأمل والبحث وتنويع القراءات.
هامش:
تحليل الخطاب الروائي : الزمن ـ السرد ـ التبئير {منجز نقدي} ،سعيد يقطين ، منشورات المركز الثقافي العربي ، طبعة 2005،البيضاء ـ بيروت .