أختي التي تكبرني سنّا، انقطعت عن الدراســة, أو بالأحــــرى, أرغمت على أن تتخذ المنزل مدرسةً لها, وملجأً ليلا ونهارا، لا تتخطى عتبةَ منزلِنا الطّيني إلا حين يتعلق الأمرُ بالأعياد الدينية, والمناسبات العرفية. تقضي يومها بين المطبخِ والغسيل والنسيج، تطرزُ لنا مناديلَ, وتساعد أمي على نسج الزرابي التقليدية، زرابيٌّ تعدّ من أسمال لم تعد تصلح للبّاس.
ذاتَ مساءٍ، رجعت من الحقل, فوق رأسي حزمةُ حطبٍ, ألقيتُ بها قرب عتبةِ الدار, وتوجّهت نحو الداخل، في “السطوان” (سمي كذلك لأنه يشبه في شكله الهندسي الأسطوانة). كانت أمي وأختي وبناتُ الجيران ينسجنَ زربيةً، وكنّ يغنين ويقهقهن. كاد قلبي أن يخرج من صدري, حين رمقت زهرةَ تجلس إلى جانب أختي، أرسلت نظراتٍ خجولةً نحوها، فاحمرت وجنتاها وطأطأت رأسها.
جلست، أسترق النظر, محاولا أن أجد طريقا إلى الذوبان في الحديث معها، وأضع حدا للارتباك الذي استولى علي، ثم فجأة قالت أمي بنبرة آمرة :
– ولدي أحمد ! عليك أن تخرج الآن؛ نحن على مشارف إنهاء النسج، إن بقيت هنا ونحن نقطّع الزربية ستموت!
– ماذا؟ أنا سأموت من قال لك ذلك؟
– نعم هل تجهل الأمر؟ نعم يا بني, عند بلوغ مرحلة القطع والتقطيع, على الذكور أن يخرجوا حتى تتم العملية.
رفضت قطعا أن أخرج، فإذا بجدتي تثورُ علي، قرصتني في معصمي وعلى مُحياها سيلٌ جارف من الغضب. حاول الكلّ أن يجبرني على المغادرة لكن برباطةِ جأشٍ استطعت أن أكبِح جماحَهم.
بقيت أنتظر حتى انتهت العملية ثم وقفت وبدأت أركض في البهو وأصرخ:
– أنا حي لم أمت أنا حي لم أمت، أرأيتم؟ثم تسللت بسمةٌ محتشمةٌ بين شفتي أمي، معلنةً رضاها بالهزيمة.
كانت الزربيةُ جميلةً جدا، جمال تلك الأنامل التي نسجتها، بألوانها الطبيعية وأشكالها الهندسية التي تروي ألفَ حكاية وحكاية من حكايات الدوار والواحة.
في الليل، كنا مجتمعين حول مائدة الطعام، نحتسي الحساءَ “بالكرنب” وهو نبتةٌ خضراءُ اللونِ وريقاتها تشبه آذانَ الفيلة، موجودة بالمنطقة، ثم فجأةً صاح جدي:
– اسكتوا هل سمعتم صوتا ؟ إنه يشبه صوتَ البراح.
كان صوت البرّاحِ يصدح في الخارج, يخبر سكان القرية بأن يستعدوا لاستقبال الملك, لأنه سيقوم بزيارة إلى مدينة زاكورة، ثم إن على كلِّ عائلة أن تساهم بزربية, أو شيء من الفراش الجديد حتى يتسنّى لممثلي السلطةِ والأعوانِ والشيوخِ أن يجدوا مكانا يطيب لمقامهم وللوفد الملكي.
في الصباح الباكر، أسرعت أمي بإزالة بقايا الملابس العالقة بالزربية وألقت بها لحر الشمس.
مرت بضعةُ أيام. كان حديث الساعة آنذاك الزيارةُ الملكية. سارع الناس إلى كتابة الرسائل، تفرقوا على الطلبة القلائل في الدوار لتحرير الاستعطافات, و طلبات العمل في انتظار الملك.
حين حل يومُ الزيارة، نُقلنا كالقطعان في شاحنات مهترئةِ الجوانب, صدئةِ الداخل, كحالتنا تماما. وقادونا نحو ”الفيلاج”.
ما هذا؟ عجيب ! كيف لكل هذا النخيل أن ينبت ويعلو, وتتدلى منه عراجينُ التمرِ بين عشيةٍ وضحاها؟ أما حيطانُ المنازلِ فقد كسيت ببياض “الجير”, وبأعلامٍ وطنيةٍ حمراء, جديدةٍ وأنيقةٍ غير تلكَ البالية التي عهدناها ترفرف على سطح القيادة.سبقتنا الزرابي إلى عينِ المكان، وبين كل الزرابي, ووسط الجلبة والضوضاء، استطعت أن أتعرف على زربيتنا, وتراءى لي وجه زهرةَ هناك, ووجه جدتي الذي كان يفور غضبا آنذاك.
جلسنا ننتظر من الثامنة صباحا حتى الثامنة ليلا. مخزنيٌّ سقط أمام مرأى الجميع, إثر الشمسِ الحارقة. الأطفال تبولوا في سراويلهم. الإعياء انسل إلى الجميع. أنا أيضا خارت قواي, كان المظهر أشبه بفيلم ”الرسالة” حين تنتهي مبارزة بين جيشين, ويبدو الساقطُ أكثر من الواقف.تداول الناس أخبارا كثيرة, بين من يقول بأن الملك ذهب جوا إلى المدينة وبين من يقول بأنه ألغى الزيارة. أما أنا فذهني كان منشغلا طيلةَ النهار بمصير الزربيةِ الجديدة التي تطأ عليها الأقدامُ, ووجه زهرة الذي ذوبته الشمس, وعن مصير المخزني الذي سقط تلك السقطة المميتة. وفكرت في الظلام الذي حل في الفيلاج وكيف السبيل للعودة إلى الدوار.