إرتبطت لدينا السهرة إبان سن المراهقة بالحرية ، والتحرر شيئا ما من قيود الأسرة وسلطتها .. فأصبحنا نتجاوز حدود المدشر ونتحرك في فضاء أوسع دون أن نتعرض للمساءلة ..كان جل أبناء المدشر يشاركون في مغامرة الذهاب إلى السهرة .. لم يكن هؤلاء يشكلون شلة متناسقة من الأتراب أو الأنداد ، بل كانت خليطا من الأعمار تبدأ من سن الإثنى عشرة سنة إلى السابعة عشرة سنة أو أكثر .. كنا نذهب إلى المقهى بالمركز القروي لتحقيق غايتنا في التمتع بسهرتنا الأسبوعية .. رغم أننا لم نكن نشفي غليلنا من محتوياتها في مرات متعددة .. بسبب الأعطاب التي كانت تعيشها أجهزة البث التلفزي ، أو إثر الانقطاع المفاجئ للتيار الكهربائي .. لكن رغم ذلك ، كنا نتحمل مشقة قطع ثلاث كيلومترات للذهاب إلى المركز نهاية كل أسبوع .. فجهاز التلفزة كان محور إهتمامنا ومبلغ تحركنا .. فلم نكن نبالي بعنت التنقل . كنا سرعان ما ننسى ما نكابده من أجل التمتع بالسهرة .. فسحر التلفزة وانجذابنا إليها أقوى من معاناتنا .. مركزنا القروي الذي نقصده ، هو عبارة عن تجمع للمصالح والخدمات بالنسبة للبلدة ككل . يحتضن مقر المجلس الجماعي للبلدة أو ما يسمى محليا بدار الجماعة ، والمستوصف ، ومطحنة الحبوب ، ومقهتان.. وبضع دكاكين للبقالة .
ثم فضاء السوق الأسبوعي الذي يقصده المتسوقون والتجار أيام الٱحاد ، وبعض المساكن التي لا يتجاوز عددها أصابع الكفين معا .. كان هذا المركز ، المجال العمراني الوحيد المرتبط بشبكتي الماء الصالح للشرب والتيار الكهربائي ، بالرغم من أن خدماتهما كانتا رديئة جدا . إذ عادة ما ينقطع التيار الكهربائي لأيام ، أو يتوقف تدفق الماء إلى حنفيات المنازل والمرافق الخدماتية .. وأحيانا يتحدان معا في عدم الحضور إلى المركز .. في تحد سافر لرغبات وحاجيات السكان وطموحاتهم في الاستفادة من ثمار هذين المرفقين الحيويين ..لم يكن لدينا الإختيار في ارتياد مقهى معينة ، فهما إثنتين في المركز كله .. مقهى الحمياني ومقهى السوسي ..وكنا نفضل مقهى الحمياني لموقعها المتميز ، وتوفر التهوية فيها وكذا رحابتها مقارنة مع الأخرى ..كان فضاء هذه المقهى يوحي إلي بالفصل المدرسي ، بالنظر إلى شكله المستطيل . يتوسط طاولاته ممر طولي يسلكه صاحب المقهى لتوزيع الطلبيات على الزبناء .تصفف الطاولات والكراسي في فضاء المقهى بشكل يجعلنا ننظر إلى الجهة الغربية التي يتربع فيها جهاز التلفاز المبهر على رف اسمنتي يعلو عن أرضية المقهى بحوالي مترين .. بجانبه منضدة لتهييء المشروبات للزبناء ، وغير بعيد عن المنضدة نحو اليسار ، هناك ثلاجة يخزن فيها صاحب المقهى زجاجات المشروبات الغازية .. إنما نظرا لتواتر إنقطاع التيار الكهربائي ، وقدم الثلاجة ، باتت لا تقوم بدورها في التبريد . وصارت المشروبات المنحشرة في أحشائها ، دون البرودة التي يتمناها الزبناء .. إنما شدة عشقنا آنذاك للمشروبات الغازية ، وحبنا لها الذي سكن دواخلنا ، جعلنا نتجاوز عن صاحب المقهى حالة قلة البرودة التي تكون عليها .. فكنا نتجرعها دافئة أحيانا ولا نبالي . لقد كان جهاز التلفزة هو محور إهتمامنا ومبلغ قصدنا ومنتهى رغبتنا ..كان فصل الصيف هو الفترة التي ندمن فيها على الذهاب إلى المركز لحضور السهرة .. حيث نستغل فترة العطلة الصيفية الطويلة التي كانت تمتد على مدى ثلاثة أشهر .. فنبرمج أنشطة ترتبط بهذا الفصل.. كلعب كرة القدم ، أو قضاء أوقات ممتعة في السباحة في برك الواد ، والإسترخاء في ظل الأشجار القريبة منها ، إتقاء للحرارة الملتهبة التي تزيد خلال هذا الفصل .. أو التسكع في فضاءات البلدة ..إنما أهم نشاط كنا نستمتع به ولا نفوته إلا لماما ، هو سهرة السبت .. ومشاهدة أفلام السهرة أو حصة الأغاني الطربية الكلاسيكية التي كان يحييها كبار الفنانين العرب .. وعلى رأسهم السيدة أم كلثوم ..ولو أننا كنا نفضل مشاهدة الأفلام على حصة الأغاني. في كثير من الأحيان كنا نبكر إلى هناك . فنحضر كل فقرات البرنامج التلفزي ، من بداية البث الذي ينطلق حوالي الساعة السابعة مساء .. يفتتح بتلاوة آيات بينات من القرآن الكريم ، وينتهي بها كذلك ، حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا .. ناذرا ما يتجاوز البث هذا التوقيت . نستهلك كل ما يقدم للمشاهدة .. من نشرات إخبارية باللغات الثلاث أو ربما الأربع ، وحصة الرسوم المتحركة ، وبرامج إجتماعية وترفيهية ، وحلقات من مسلسلات لم نكن شاهدنا حلقاتها السابقة طبعا ، فكنا لا ندرك تسلسل القصة وترابطاتها بين السابق واللاحق من الأحداث .. إنما نشاهدها .. وبكل جوارحنا .. غير أن أهم اللحظات المثيرة والآسرة في نفس الوقت ، هي حينما كنا نحضر مشاهدة فيلم السهرة .. نتابع أحداثه وتحرك أبطاله وشخوصه في مجريات الفيلم ، بحماس وتلذذ .. ونحن ننتظر تلك اللقطات الحميمية عادة ما تجمع البطل والبطلة في مشاهد غرامية أو تغزلية أو أحيانا إيروتيكية محدودة .. فكنا نتجمد في مقاعدنا ، فتزداد دقات قلوبنا .. وعيوننا جاحظة مثبتة في شاشة التلفاز .. تنحبس أنفاسنا وتنعدم الحركة في فضاء المقهى حتي يخيل أنها فارغة من الزبناء ، من شدة التماهي مع مشاهد الفيلم الساحرة .. غير أنه وفي كثير من المرات لم تكن هذه اللحظات الممتعة تستمر الى النهاية ، ولا لأن تتم بسلام .. كان ينقطع حبل المشاهدة وتتلاشى الروابط التي ننسجها مع فيلم السهرة بشكل مفاجيء . كانت هذه الأعطاب والإنقطاعات بمثابة كابوس يطاردنا ويمنع عنا فرحتنا وتلذذنا بالمشاهدة .. فيتوقف البث التلفزي .. أو أحيانا ينقطع التيار الكهربائي . فتضج المقهى بالصراخ والسباب . ويعود الكلام إلى ألستنا بعدما تجمدت خلال زمن بث فيلم السهرة .. فننطلق دون شعور منا في لعن القيمين على مراقبة محطة البث التلفزي المنصوبة على قمة جبل تازكا .. أو نلعن حراس المحطة الكهربائية التي لا تبعد عن المركز إلا ببضعة عشرات الأمتار . ننسحب من فضاء المقهى بعد إنتظارنا مدة من الزمن عسا أن يعود البث ، أو تنتعش خيوط الكهرباء برجوع التيار إليها وتدب الحياة في الجهاز الساحر من جديد، لعلنا نكمل مابقي من زمن فيلم السهرة …إنما عادة ، وفي الأوقات التي يسعفنا فيها الحظ .. يتوافق رجوع البث مع النشرة الأخيرة فيزيد إحتجاجنا ويرتفع صراخنا ويشتد إحباطنا … نتفرق إلى حال سبيلنا قلقين منفعلين حانقين على وضعنا الكئيب الذي لم يستقم ، ولم يفسح لنا المجال للتمتع بسهرتنا التي ننتظرها أسبوعا كاملا ..!