يتميز الشعر الموزون بقوة تبهر القارئ و السامع فإن هذا الشعر له الجمال المريح و الحضور الطاغي
أما الشعر النثري و الذي لا يتكئ على الوزن بل ينتمي إلى ما يسمى بالإيقاع أو الموسيقى الداخلية فلا علاقة له بالوزن الذي ينقسم إلى تفعيلات تشكل الموسيقى الخارجية للقصيدة.
و بذلك ينتمي الكثيرون إلى الشعر الموزون العمودي و الحر المبني على وحدة التفعيلة متناسين الجهد الذي يبذله الشاعر و هو يطوِّع الكلمات للدخول في سجن الوزن الشعري.
و في هذا المقال سأتطرق إلى شاعرين مبدعين هما نزار قباني و مصطفى وهبي التل المشهور بلقب “عرار” و كيف تعاملا في شعرهما مع هذا التقيد التام بالوزن.
فحين تحدث نزار في إحدى قصائده عن الأندلس ذكر بأن المدة التي عاشها العرب في الأندلس هي ثمانية قرون و هذا هو المعتمد في المراجع فيقول نزار في قصيدته :” أحزان في الأندلس” :
لم يبق في إسبانيه
منا، ومن عصورنا الثمانيةْ
غير الذي يبقي من الخمر،
بجوف الآنيةْ
فساعده الوزن هنا على أن ينقل الوقت بدقة و هو بذلك يتحكم في وزن قصيدته
أما في قصيدته “غرناطة”فإنه يغيِّر الرقم الذي أقره في قصيدته ”أحزان في الأندلس” فيقول :
غرناطة ! و صحت قرون سبعة في تينك العينين بعد رقاد لقد حذف نزار قرناً من الزمان بكامل أعوامه و تفاصيله لكي ينسجم مع الوزن الشعري و هو لم يحذف الحقيقة و لم يزوِّر . و الدليل هو ما أثبته في قصيدته أحزان في الأندلس فالشاعر معذور هنا ؛ لأنه شاعر متمكِّن وقع في مأزق و قد يصل الأمر إلى أن يطلب الشاعر -متحدياً- من الشعراء أن يخرجوه من هذا المأزق و هو بعدها سيكون أول المثبتين للقرن المحذوف و ليست هذه أول مرة يصطدم فيها نزار مع الوزن الشعري ففي قصيدته ” شعراء الأرض المحتلة “أضطر الشاعر إلى إضافة الألف و اللام إلى اسم الشاعرين محمود درويش و توفيق زيَّاد فقال :
محمودَ الدرويش .. سلاما
توفيقَ الزيّاد .. سلاما
يا فدوى طوقان .. سلاما
يا مَن تبرونَ على الأضلاعِ الأقلاما
فنلاحظ هنا هذه الزيادة لأن الوزن الشعري ينكسر إذا لم يضفها الشاعر و لكنه لم يضفها إلى اسم فدوى طوقان لأن الوزن يبقى سليماً بدونها.
و هكذا يحافظ الشاعر على وزنه الشعري مع ملاحظة أن التغيير الحاصل في قصيدته “شعراء الأرض المحتلة” لا يؤثر سلبياً على المعنى كما حصل في قصيدته “غرناطة”.
أما عرار فأوضح مثال على معاناته مع الوزن الشعري هو قصيدته “في رثاء الشريف الحسين بن علي ” يقول “عرار”:
غامرت بالتاج الثمين
تصون بالعرش المكين
المسجد الأقصى وحق
بني أبيك بفلسطين
البيت الثاني هنا مكسور الوزن ؛ و الكسر واضح و لكن الشاعر معذور لأنه لم يستطع أن يضع الجملة التي يريدها في وزن القصيدة الذي اختاره فماذا يصنع؟
هل يغيِّر كما فعل نزار؟
و ماذا يحذف؟
إنه لا يستطيع أن يحذف “فلسطين” فاختار أن يكسر الوزن الشعري على أن يحذف “فلسطين” المتأصلة في قلوب العرب و المسلمين.
و بهذه الأمثلة من شاعرين مبدعين نعلم أن الشعر الموزون ليس سهلاً و نستطيع أن ننبِّه النقاد و المتذوقين إلى أن الشاعر الذي يصمد أمام قيود الشعر يستحق أن نلتمس له الأعذار إذا حذف معلومة خطيرة ليستقيم الوزن أو كسر الوزن لكي لا يحذف هذه المعلومة الخطيرة و نستطيع كذلك أن نطلب المزيد من الإبداع من شعراء القصيدة النثرية فقد تحرروا تحرراً كاملاً من قيود الشعر الموزون.