قبل الاستقلال كان الشعر هو الجنس الأدبي المنتشر في المغرب، وهو الذي كان يعبر عــن هموم الشعب المغربي وقضاياه الاقتصادية والاجتماعية، وكان هو سيف الأدباء في مواجهة المستعمر، وفـي استنهـاض همم الشـعب للتحدي والمواجـهة، وكان الشعر يـعبر أصدق تعــبير عن الواقع المعيش .
أما الرواية فقد تأخرت نشأتها في الأدب المغربي كثيرا، بالمقارنة مـع الأدب الأوربي الذي قطع شوطا كبيرا في الإبداع الروائي، ومــقارنة مع المشرق الـعربي وخاصة مـصر التي عرفت الفن الروائي مبكرا مع رواد كبار .
إن الأدب المغربي لم يعرف ظهور جنس الرواية إلا في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، هذه المرحلة التي يمكن اعتبارها ” أهم نقطة لتوقيت البداية “(1)، وقد عرفت هذه المرحلة ميلاد نص “في الطفولة” للكاتب عبد المجيد بن جلون الذي كان بمثابة أول نــص روائي يتكون في الأدب المغربي حيث أجمع النقاد المغاربة على اعتباره تأسيسا للــكتابة الروائية المغربية. وقد نالت” في الطفولة ” إعجاب النقاد وعكست قدرة عبد المجيد بن جلون الفنية، وبراعته في التصوير والتحليل والتعبير. وعلى الرغم من كون هذا العمل في الواقع ما هو إلا قصة يحكي فيها الكاتب عن نشأته وطفولته وصباه ورحلاته ما بين المغرب وإنجلترا فإن ” ماأسبغه عليها من ظلال سحرية وما رسمه فيها من انطباعات فطرية جعلها تفيض بالحيوية وتبلغ حد الإبداع، وبذلك طارت شهرته كقصصي ممتاز فغلبت على ما له من مواهب أخرى في الشعر والنثر ” (2). وفي الحقيقة أن عبد المجيد بن جلون بتملكه ناصية الفن القصصي وإمساكه بزمامه فإنه يعد الروائي الأول في الأدب المغربي الحديث.
ويمكن القول إن الرواية المغربية في أواخر الستينيات من القرن الماضي قد بدأت تفرض نفسها وتنتشر انتشارا واسعا في الحركة الأدبية، ولعبت دورا كبيرا في التعبير عن همومنا ومشاكلنا الثقافية والاجتماعية . وبعبارة أخرى استطاعت أن تجسد الواقع المغربي في عهد الاستقلال، ورغم هذه المهمة الإيجابية التي أنجزتها الرواية المغربية فإنها لم تسر دائما في نفس السياق على اعتبار أن هناك بعض الروايات لم تكن مخلصة للواقع وحقائقه الموضوعية بل كانت مخلصة لنوايا مؤلفيها ونزواتهم الذاتية .
كما أن الرواية المغربية عبرت عن طبقة اجتماعية متميزة وهي الطبقة البورجوازية، إذ أنها عبرت عن تصوراتها وجسدت أفكارها وآراءها، وهذا مادفع النقاد إلى الربط بين البورجوازية ونشأة الرواية فقد ” عدوا الرواية نوعا أدبيا نشأ أساسا للتعبير عن وعي هذه الطبقة ” (3) . ولعل النتيجة التي أسفر عنها هذا الربط بين نشأة الرواية المغربية والطبقة البورجوازية الوسطى على الخصوص، هي أن النقاد المغاربة ذهبوا إلى اعتبار ظروف ومشاكل البورجوازي الصغير محور أغلب الإبداعات الروائية، وقد انتشر هذا الحكم بين أغلب النقاد، إذ أنهم اعتبروا أن الركيزة الفكرية لجل الخطابات الروائية هي ” الذهنية الطبقية التي كونها المثقف البورجوازي الصغير عن ظروف واقعه المادي وممارسته الاجتماعية، في خضم عملية بحثه عن معنى وجودة وقضايا تطلعاته ” (4) .
لقد كانت الإبداعات الروائية المغربية التي ظهرت في أواخر الستينيات من القرن الماضي تمثل بشكل فني القوى الاجتماعية التي تعيش في صراع يشتعل حينا وينطفئ حينا آخر، وقد كان لذلك كله انعكاس على الحقل الأدبي والفكري في المغرب. وإذا كانت هناك خصوصية تطبع هذه المرحلة في المغرب فهي الإخفاقات التي فجع بها اليسار، على أن هذا الانكسار في صفوف الحركة التقدمية لا ينهض وحده كسبب رئيسي لظهور روايات تعزف نغمة الرفض والاحتجاج وتهتم بالطبقة المسحوقة في المجتمع طالما أن السبب الرئيسي لنشاط الحركة الأدبية يعود أساسا إلى الصراع المادي بين الجماعات الاجتماعية التي تمثلها القوى الأساسية المتواجدة على الساحة الاجتماعية.
وإذا تأملنا الظروف التي عاشها المغرب خلال هذه الفترة التاريخية يمكن أن نقول بأنها تشبه إلى حد ما الظروف ” التي عاشتها أوربا في القرن 19، وهذا ما يؤكد شيئا واحدا وهو أن الرواية عندنا لا تعود في حقيقتها أن تكون جزءا من جملة موروثنا عن الغرب البورجوازي ” (5).
ولما كانت معظم الأعمال الروائية المغربية تمثل الطبقة البورجوازية الوسطى والصغرى فإن الذين أبدعوها ظلوا متشبثين بأوهام البورجوازية مما جعل الضباب القومي يطغى على رواياتهم، وجعلها عاجزة عن التعبير الصريح عن الطبقات المسحوقة، وهذا العجز “ليس ناتجا بالضرورة عن غياب التقاليد والأعراف الفنية الروائية في أدبنا المغربي فحسب بل هو ناتج أساسا عن افتقار رؤية روائيينا هؤلاء إلى الفهم الصحيح لجدلية الصراع الدائمة التي تحرك العلاقات الاجتماعية، وتسيرها بحتمية تاريخية نحو مصيرها النهائي ” (6). وهذه السلبية هي التي جعلت الرواية المغربية في هذه المرحلة تفقد نكهتها الواقعية، حيث أصبحت بذلك خالية من البعد الثوري، وبقيت سجينة أفق بورجوازي ضيق، وهذا ما جعل أيضا بعض الروايات تطغى عليها النزعة الذاتية، ويبالغ مؤلفوها بسرد الأمور التافهة، ويعبرون عن خواطرهم ومشاكلهم الشخصية متجاهلين وضعية الإنسان المغربي ومستقبله، إنهم بحكم تكوينهم وانتمائهم الاجتماعي غير قادرين على احتضان السياق الراهن لهذه المرحلة التاريخية الحرجة، أو حمل تصور واضح على أفق المستقبل. وهذا القصور في الفهم والتفسير لا يمكن إدراك عوامله البعيدة إلا من خلال تحليل ارتباط الشكل الروائي كما ظهر عند الغربيين بالواقع الاجتماعي الذي أنتجه والمواقف التي اتخذها كتابنا لعكس وبلورة هذه العلاقة عبر رؤية معينة للواقع وعلاقات الإنتاج ودور كل جماعة اجتماعية. ولقد كان من المنتظر، وارتكازا على التقييم المخلص للواقع، وللقوى الاجتماعية المتواجدة فيه أن تظهر الرواية في المغرب بالمفهوم والشكل اللذين عرفت بهما في أوربا، ابتداء من الثلث الأخير للقرن الثامن عشر، لا كمجرد ترف ذهني وثقافي بل وفي المقام الأول كتعبير عن قوات وعلاقات تسود الساحة الاجتماعية وتحتل بحكم تفوقها المواقع الأمامية في الحركة الثقافية.
فالبورجوازية التي قادت معركة الاستقلال تمكنت من الاستمرار في الهيمنة- رغم انقسامها- على المستويين المادي والثقافي كما استطاعت الصمود والتحدي. وفي مقابل هذا الوضع تمكنت البورجوازية الصغرى من إغناء المسار الأدبي، وفرض نموذجها الذي لم يكتف برصد الهزائم التي لحقت بها. واستغلالها كخلفية إيديولوجية تغني العمل الفني، بل جاء ليكتشف طبيعة هذه القوة الاجتماعية الصاعدة .
لقد كان الصراع شديدا بين هذه القوى وكان على كل فئة أن تعطي ما عندها في المجال الثقافي، وكأنها ” تبتغي العطاء أن يكون وسيلة من وسائل إثبات وجودها… ويعزز موقعها كطبقة تريد أن تستقطب أكبر عدد من المثقفين، وكان من الطبيعي كذلك أن تختار كل مجموعة لمصادرها والينابيع التي تعتبرها مواد خام صالحة تستقي منها مضامينها الملائمة وأفكارها المعبرة عن أمجادها التليدة، أو عن مطامحها القريبة أو البعيدة “(7) .
وهكذ انصب اهتمام مثقفي الطبقة الصغرى على الواقع المعيش حيث راح هؤلاء ينتقدونه ويستغلونه استغلالا فنيا في أعمالهم الأدبية، وصوروا أبطالها من نماذج بشرية مغلوبة على أمرها، إذن فليس بدعا أن يحتل الإنسان البسيط المعدم مركز الصدارة في أعمال هؤلاء المبدعين لهذه الطبقة النامية التي خرجت من أحشاء البورجوازية وأصبحت تدعي أنها صاحبة المصلحة الحقيقية للبلاد .
ومن هنا ستظهر النزعة الواقعية في الرواية المغربية، هذه النزعة التي أصبحت تسير فيها أغلب الروايات، وأصبحت الواقعية هي هاجس معظم الروائيين الذين ألحوا على ارتباط الرواية بالواقع، واعتبروا أن وظيفتها الأساسية هي تصوير الحياة الواقعية، ومن بين هؤلاء عبد المجيد بن جلون الذي قال في بعض أحاديثه بأن ” الغرض من القصة أن تصور في عين القارئ حياة واقعية بكل ما في هذه الحياة الواقعية من غنى وأصالة “(8).
وقد انصبت آراء بعض الروائيين المغاربة على علاقة الرواية بالواقع، وتميزت بتركيزها على التجربة الإبداعية كمعاناة ذاتية يحاول المبدع صياغتها كي تكتسي طابعا موضوعيا، ويرى حميد لحميداني في كتابه الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي أن “الرواية هي تلك التي تتجاوز في رؤيتها ماهو موجود في الواقع، من أجل البحث عن قيم أصيلة غير موجودة في الواقع”(9) . كما أن أي عمل روائي لا يظهر إلا عندما يكون هناك استياء من القيم السائدة في المجتمع وطموح نحو قيم جديدة ومغايرة، ومن أجل هذا عرف الناقد البنيوي التكويني لوسيان غولدمان الرواية بأنها ” تاريخ بحث عن قيم حقيقية في عالم متدهور، ويتميز هذا التدهور فيما يخص البطل الروائي بالتوسط، وبانتقال القيم الحقيقية إلى المستوى الضمني واختفائها كحقائق ظاهرة ” (10) .
ومن هنا يتجلى سر القيمة الإنسانية والفنية لأي عمل إبداعي. على اعتبار أنه ليس عملا ثانويا في حياة الإنسان، بل هو يساهم في تأسيس المستقبل الإنساني، ولهذا فالرواية كنتاج فكري ليس ترفا، أو شيئا ثانويا بقدر ماهي تعمل ضمن المساهمة الفوقية لحياة المجتمع الروحية فتمارس بذلك تأثيرها على الواقع في حدود إمكانياتها الخاصة .
وبعد هذا الاستعراض لنشأة الرواية والظروف السياسية والاجتماعية التي نشأت فيها والنزعة الطاغية عليها، لابد أن نتحدث باختصار عن المواضيع التي تطرقت لها الرواية المغربية خلال الأشواط والمراحل التي مرت منها .
لقد صورت الرواية المغربية منذ نشأتها مجموعة من القضايا الوطنية والاجتماعية، ولعل أولها كان هو النضال الوطني والنقابي، وهو الذي تمثل في روايات عبد الكريم غلاب وخاصة في “دفنا الماضي” و “المعلم علي” و “سبعة أبواب”، وهي روايات تعالج كلها الفترة السابقة عن استقلال المغرب، وسجلت حقبة تاريخية ماضية مليئة بالنضال، ولم تسجل هذه الروايات أي تصور للمستقبل، ولهذا يقول لحميداني حميد ” إن النقطة النهائية التي تقف عندها روايات عبد الكريم غلاب هي تلك اللحظة السعيدة، ولذلك فهي لم تعكس أي بعد مستقبلي ” (11).
أما التيمة الثانية التي عالجتها الرواية المغربية فهي صراع الأجيال، وتعكسه لنا رواية “جيل الظمأ” لمحمد عزيز الحبابي، وهي بعكس روايات عبد الكريم غلاب فهي تسجل فترة الاستقلال وتصور لنا ” الجيل الجديد في حالة انتصار حاسم على الجيل القديم ومخلفاته”(12) .
كما تناولت الرواية المغربية قضية هزيمة الأمة العربية، وخاصة القضية الفلسطينية، ونستشف ذلك من خلال رواية مبارك ربيع “رفقة السلاح والقمر”، وكذلك أعمال الكاتبة خناثة بنونة “النار والاختيار” و “الغد والغضب”.
هوامش
(1) إدريس الناقوري.المصطلح المشترك.دار النشر المغربية.الدار البيضاء.الطبعة الثانية.الصفحة 22 .
(2) عبد الله كنون.أحاديث عن الأدب المغربي الحديث.دار الثقافة.الدار البيضاء.الطبعة الثالثة.1981.الصفحة 125 .
(3) فاطمة الزهراء أزرويل.مفاهيم نقد الرواية بالمغرب.نشر الفنك.الدار البيضاء.1989.
الصفحة 90.