بعد ليلة طويلة ،و نومة متقطعة نتيجة ما تجنيه عليك حاسة سمعك،تارة تغط في نوم عميق و أحلام متنوعة فتفيق على صوت ريح قوية تراقص الأشجار، و تنطق كل ما هو حديدي فوق السطوح ،و تلاعب القارورات الفارغة،أو صراخ قطط يشق السماء و هي تتزاوج غير مبالية بما حولها، وعواء كلب اقترب من قط شرس فضربه على وجهه،أو شجار السكارى في آخر الليل ،تزداد حاسة سمعك نباهة لالتقاط ما جد من كلام خارج العقل ،منه ما يضحك ،و منه ما يؤسف لسماعه،وتارة تفيق على صوت أحدنا يحلم بالجهر، ربما زارته كوابيس مزعجة فقضت مضجعه، كأنه يريد أن ينام لوحده و يوقظ الأخرين ،من يسمعه لا يكلمه لكي لا يقطع نومه و يصبح على فعلته نادما ، يستمر صاحبنا في تمتماته المسموعة ليصل مرحلة طحن الأضراس ،من لا يتحمل صوت الرحى الآدمية يصرخ كفى من هذا الشيء يا أحمد”باركا علينا من هذا الزمرررر” … يقطع أحمد شحذ الأضراس للحظة ،و يمر لمرحلة الشخير وما أدراك ما الشخير، كأنه شاحنة تصعد مرتفعا حادا ،يركله زميله بقدمه من الأسفل ،يستجيب أحمد و يبدل وضعية نومه فيسكت ،أو تفيق على صوت أحدنا أطلق العنان لريحه المسموعة و المشمومة فيمطرنا قذائف تعمي العيون فينطق أحدهم من أبعد نقطة في المرقد قائلا : هل تناديني حبيبتي مذكرا بنكتة الفقيه والغلام .
يضحك الفائقون تحت الأكمام ويعودون لنومهم.
طاب النوم بعد آذان الفجر ،عم الصمت الا من بعد الحنحنات الخفيفة من هنا و هناك،إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة .
بعد ليلة طويلة كما شعرت ،اقترب الوقت فحضر عون الداخلية يطرق الباب في أعلاه و بقوة ،أذن العون على الحديد ليسمع هل من مجيب ،و وجهه الى الوراء عند الساحة،”يا الله فيقوا مشى الحال”
تستجيب الأسرة الحديدية العلوية لقفزاتنا في شكل أصوات سلاسل يجرها مساجين مقيدين…
ننتظر دورنا عند مدخل الحمام لغسل الوجوه المبتسمة رغم مرارة العيش،و ننتظم في طابور عند المراحيض لتفريغ حمولة الليل …
نرتدي الملابس بسرعة ،ونحمل محافظ مقرر الصباح فقط .
نقصد المطعم لتناول وجبة الإفطار الغير كافية ،لانها منقوصة من معشوقتي الزيت البلدية والزيتون الطبيعي …لم أخن معشوقتي و لو ليوم واحد و لحد الآن ، أجغم كل صباح جغمة أو جغمتين مع البيض البلدي نيئا ،وأكتفي ببيضة واحدة على الريق…
بعد الفطور نلتحق بقاعة المطالعة تحت حراسة أحد أعوان الداخلية في انتظار الجرس.
دق الجرس فاندفع الجميع لساحة الثانوية ،الداخليون من جهة ،و الخارجيون من جهة أخرى ،كأنهما نهران يمتزجان في بحيرة واحدة
تتوالى الأيام هكذا من الإثنين الى الخميس ،و لا يكسر هذا الروتين الا ما يأتي به يوم الجمعة من أنشطة رياضية جماعية متنوعة، و منافسات في المستوى اللائق نكون فيها اما مشاركين أو متفرجين …
دق الجرس للمرة الثانية فانتظمنا في الصف مثنى مثنى في انتظار إذن الأستاذ صاحب الهندام الأنيق ،و الإبتسامة الرقيقة، و الكارزمة المستحقة ،ندخل في هدوء و احترام،كل واحد منا يقصد مكانه المعتاد دون تغيير الطاولة طيلة الموسم الدراسي ،يرفع الاستاذ رأسه ليتعرف على الغياب دون عناء المناداة .
يبدأ الدرس بمراجعة ما فات مع تحريك الثقال منا ،كانت المنافسة قوية و شريفة بين الداخليين و الخارجيين ،و بصراحة ظروف التحصيل و التحضير كانت مسعفة للتلميذ الداخلي الذي لا يغادر الداخلية الا مساء السبت و يوم الأحد ،و باقي الأيام كلها جد و اجتهاد.
كنّا نشتغل في مجموعات ،و كان صديق الدراسة الدائم هو دوخة عبدالقادر من أول قسم في الأساسي الى أخر قسم جامعي .
انضاف الى مجموعتنا بعض التلميذات الخارجيات صديقات الدراسة المجتهدات مما أثار غيرة زملائنا الخارجيين ،و كأن ليس من حق التلميذ الداخلي الدخول في مثل كذا علاقات ،هذه النظرة الدونية كانت حافزنا لنتميز داخل القسم و في الحصص الرياضية ،كانت علاقاتناناضجة و مقتصرة
على التحصيل العلمي مع زميلاتنا، الاحترام هو سيد الموقف ،ما زلت اتذكر صديقتنا الغالية و إسمها رقية الجرسيفية ،أتمنى لها الصحة و العافية أينما كانت ،و هي سليلة عائلة إقطاعية ،والدها صاحب ضيعات كثيرة للزيتون ،و حضائر للبقر و الغنم ،كان رجلا متفتحا و يحب ابنته كثيرا ،يستضيفنا في أي وقت ،و يخصص لنا بيتا كبيرا للمطالعة و المراجعة ،يكرمنا خير إكرام و خصوصا مساء السبت و يوم الأحد ،يطعمنا أحسن الطعام، نأكل ما طاب من خبز الفراح المطلوع مع الزبدة البلدية ،و السمن الحار لمن أراد ،و العسل و جميع مشتقات الحليب.
كل زميلاتنا في الدراسة نجحن في مشوارهن الجامعي و منهن أستاذات جامعيات ،اما الصديقة رقية عندما حصلت على الباكلوريا غادرت الى خارج المغرب لمتابعة دراستها الجامعية تخصص صيدلة، بإمكان والدها أن يتكفل بها ولو خارج الوطن ،و نجحت في مشوارها الجامعي و حصلت على شهادة الدكتوراه في الصيدلة.
أغلب أساتذتنا كانوا عزاب ،و منهم أستاذ الأدب العربي ،الذي كانت عينه على زميلة لنا ،و نيته صادقة للزواج بها ،كانت تلميذة مهذبة ومجتهدة ما شاء الله عليها، و كانت تنتمي لمجموعتنا .
المنافسة قوية بيننا ،و الاستاذ الى جانبها دائما فيعطيها النقطة الأولى مما أغاضني ذات يوم، ليس من باب الحسد ،و لكن من باب الإنصاف،وعادة الموضوع الذي يحصد المرتبة الأولى يقرأ في القسم ،بعد قراءة موضوع الزميلة طلبت من الاستاذ الأذن لي بقراءة موضوعي صاحب النقطة الثانية و ليحكم التلاميذ ،حاول التملص و لكن تحت إلحاح زملائي سمح لي بالقراءة ،كنت مقتنعا بانتزاع الرتبة الأولى ،و لكنه ارتأى إعطائي نفس العلامة.
عندما طرح عليها مسالة الزواج رفضت بدعوى أنها تريد اتمام دراستها الجامعية ،رغم تفهم طلبها و القبول بمتابعتها للدراسة الجامعية، منذ ذاك الوقت أصبحت العلامة الأولى لمن يستحق .
كل سنة نحتفل بمناسبة أب المئة قبل اجتياز امتحان الباكلوريا البيضاء ،بالاضافة الى بعض الأعمال الفنية و الثقافية الأخرى، و مازلت اتذكر عندما شاركنا بمسرحية مسيسة لم يطلع عليها السيد المدير ،بل أشرف عليها السيد الحارس العام للداخلية لوحده،و كلاهما مناضلان مهتمان بالسياسة ،لكن في هذه المرة وفي هذه المسرحية بالذات و التي كان بطلها الصديق التلميذ العسري الذي أصبح بعد الإجازة رجل سلطة ،تجاوزنا الحد المسموح به للتعبير، و اذا بالمدير ينتفض عند بداية العرض بقليل ،و يقوم من مكانه بالقرب من رجال السلطة الحاضرين للنشاط الثقافي، و يأمرنا بتوقيف المسرحية و جمع أدوات التمثيل ،و المرور الى الوصلة الغنائية.. .لم نعرف بقية القصة مع السلطات ….
كان إعداد و تحضير العروض يأخذ منا وقتا طويلا ،البحث بالمكتبة العامة لمدينة جرسيف، قد يصل البحث الى ثلاثة أشهر أو أربعة، و ليس كما هو حال عروض هذا الزمان ،التي يمكنك ان تنجزها في يوم واحد ،و لكن بمجرد انتهاء عرضك ينتهي كل شيء. يعني عروض هذا الوقت تقرأ و كفى ،و لا تبقى في الذاكرة.
جل الأساتذة مجازون، و يحتاجون لدعم التلاميذ يوم حضور المفتش لاجتياز امتحان الكفاءة ،اتذكر يوم حضر المفتش عند الاستاذ بقسم السابعة 2 أي سنة الباكلوريا ،كان موضوع الدرس المنفلوطي بين عهدين عهد شعر الثورة و عهد شعر القصر ،و دخلنا في نقاش مباشر مع السيد المفتش الذي بهت للمستوى الذي كنّا عليه ،بعد المداولة بقاعة الاجتماعات التابعة للإدارة ،أخبرنا أستاذنا في الغد بان المفتش قال عند تقييم عمل الاستاذ :استطاع تلميذ من السابعة 2 أن يسكتني، وكنت أنا ذاك التلميذ !
شهادة السيد المفتش في حقي منحتني النقطة الأولى في الأدب في امتحان الباكلوريا البيضاء و ربما لم أكن أستحق العلامة الأولى!