نزيف الاسترجاع


يقدم الروائي المصري أحمد طايل ، في منجزه السردي الذي انتقى له وسوم ”  الوقوف على عتبات الأمس” جملة من المواقف التي تدين راهن العولمة بمختلف صور استشراسها وتوحّشها ، وكيف أنها جنت على الكائن وجعلته يخسر روحه ،بعد أن شبّعته ، أي هذه العولمة بمنتهى سلبيتها، وحقنته  بثقافة المراهنة على كل ما هو مادي صرف.

وبطبيعة الحال في ضياع هذا الكائن ،ضياع العالم الذي ينتمي إليه ، كل ذلك يتم عبر نزيف إبداعي ذاكراتي ، وكتابة منفلتة تُقلّب صفحات الأمس كمحدد لملامح الآني ومؤثر بالسلب والنقصان في غد يشح الأمل به، وتتعاظم مشاعر أو هواجس التوجس من فصوله.

بهذا النزيف الاسترجاعي ، يوغل السارد في تفاصيل محاصرة جوانب العتمة في الذات والحياة، باسطا مواقف الحياد والنزاهة تجاه هذا الزيغ والتطرف والأنانيات المريضة ، تاركا لشخصياته أكبر حيّز ممكن للتحرك في حدود لا تعترف بسوى الانتساب إلى شجرة الإنسانية ، ونظير هذه البكائية على ما يشيه الانقراض الأخلاقي ،مستجلبا كامل هذا الدمار وهذه الخسائر والهزائم والانتحار النفسي الرهيب الذي نخر الكائن ، محولا إياه إلى مجرد آلة تنقاد إلى وصايا عصر السرعة والمادة وجلْد الروح.

تبقى للأب رمزيته التي استخدمت كلازمة في هذا المنجز الروائي إذا شئنا ، كأنما تحكي هذا النشاز ، بصوت مخنوق ، تماما ، لتبصم اللعنة الأبدية والمضمّخة بخيارات المقاومة ومناهضة الاستفحال العولمي في جوره المطلق على الذات والعالم.

نقتبس للراوي قوله :

{ أبي،سامحني على غيابي عنك،رغم أنك لم تغب عني مطلقا.صدق رغم غيابك عني أكثر من نصف قرن، إلا أني أراك رفيقا دائما،حين صحوي ، حين منامي ، حين أكلي ،شربي ، كل أوقاتي، مازلت أتذكرك حين كنت تأخذني أمامك على حصانك المفضل ، وتسرع بي،نتجول بين أراضينا ، وأنا أحيانا أضحك، وكثيرا أبكي خوفا من السقوط ،ولكن للحق أنت فارس بارع ، الكل شهد بهذا ،أتذكر حينما كنت تعود من المدينة ليلا متأخرا أكون أنا مستغرقا بالنوم ، توقظني،تأخذني بين أحضانك ، تمسح نومي عن وجهي،تضع لفائف الكباب ، والعجوة خالية النوى ،المعجونة بالسمسم ، تتأملني وأنا آكل ، تطلب مني إنهاء كل الطعام ، وكان بالتأكيد هذا أمرا صعبا ،بعدها تأخذني لغسل يدي وفمي ،تُجلسني أمامك ، تبدأ بالحكي ، دوما قصص الأنبياء،من خلال حكاياتك سكنني نور الله ونور الدين ،بعدها تدخلني إلى الفراش،تغطيني بما يضمن توفير الدفء لي،أتذكر أول مرة ضربتني بشدة }.[1].

من هنا هذا النداء الخفيض ، متسربلا بذاكرة الطفولة البعيدة جدا ، ونلكم الدعوة إلى الأوبة إلى فضاء النورانية والاعتدال ،على نحو يجابه هذا المد المُعولم المدمر والذي أفسد وأضر فوق ما أفاد بكثير.

وهي مقارنة ما بين جيلين ، تسكن الأول تجليات الأبوة نابضة بحس المسؤولية في توجيه ورعاية الفلذات ورسم ملامح مستقبلهم بحرقة وحذر وتعقل كبير، خلاف الثاني أو جيل النكسة وتأليه الماديات ،فالدوخة والخدر اللذان راح يدفع ضريبتها مضاعفة الكائن والعالم على حدّ سواء.

وفي مناسبة أخرى ، ودورانا حول آفة التطرف ، كأبرز الأعراض الجانبية لسلطة وجبروت العولمة الهدّامة للقيم ، نقرأ للراوي قوله :

{ أخذني التفكير بدرجة شديدة حول المتغيرات الدينية التي طرأت على قريتي، خاصة عندما سمعت حكاية محمد حرفوش،مؤكد أن التطرف بأي اتجاه من اتجاهات الحياة يصنع فجوات وشروخا عميقة للغاية،بالتحديد التطرف الديني،هو قمة المعضلات ، نحن مع التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،وفهم صحيح للدين ،ونؤمن بأن الدين لله والوطن للجميع، ومؤمن بأن الوطن لا بد وأن يكون عائشا بنا، لذا أرسلت إلى ابن عمي شاكر ، وصديقي فوزي البحيري،وأحمد عباده ، صديق لم أره منذ سنوات بعيدة ،ولكني أعرف عنه أنه عالم بالفقه وشؤون الإسلام ، بوسطية تامة،وله مؤلفاته ،وله لقاءاته المتلفزة ،وكتاباته الصحفية بصحف مصرية وعربية،كنت أتابعها دوما ،وأفتخر أنه من بلدتي}[2].

إن الجميل في أي عمل سردي ، النأي عن إصدار الأحكام ، وإن كان المنجز الذي بين أيدينا يتعثر بهذه الفخاخ ، إلاّ أنها تحتسب استنتاجات وهي إلى تحصيل الحاصل أقرب إليها من أي ثغرة قد تشوه التمذهب الأسلوبي والتوجه الجمالي للمعمارية الروائية التي تغازل بنثار الذاكرة وتتماهى مع تفاصيل العقَدي، مقترحة بالتالي حلولا للأزمة ، وقارعة بمنظومة من الإجابات الشافية والوافية.

هكذا تتم مقاربة ظاهرة على هذا النحو من الحساسية والخطورة ، بجرد أسماء تمثل القدوة في الاعتدال والوسطية والانتماء ، تضرب بهم المثل ، وتروي سيرهم مصطبغة بهوية إنسانية جامعة ، خارج أنساق التاريخ المتكرر والذي غالبا ما يكتب بحدّ السيف ، وبلغة وأنانية المنتصر ، من ثم وإن كان ذلكم انزلاقا في النادر ، وانشدادا إلى إيقاعات الأحكام التي تخدش تسارع الصياغات السردية في المجمل ، غير أنه لها ما يبديها مغتفرة هاهنا ، من قبيل حجم الظاهرة وعمق الاستشكال ، وبما يبرزها في ثوب الاستنتاجات كما سبق وأشرنا إلى ذلك.

مثلما نطالع للذات الساردة ، قولها أيضا :

هل تذكر حبك الأول ؟ رددت مؤكد ، من منا ينسى حبه الأول ، حتى لو كان حب مراهقة وبلا أمل،مؤكد أتذكر، كنت بأول الدراسة الثانوية ، ربما بالعام الأول، كانت من قرية مجاورة ،بأواخر أعوام الدراسة الإعدادية ،ابنة رجل له مكانته بالقرية المجاورة ،عمدة من الذين لهم ثقل ،بدأنا بالنظرات المتبادلة عن بعد لأيام ،ثم أخذت بالتقارب معها ،بالجلوس مجاورا لها بالقطار،أوعزت لك يا فوزي بأن تقفز فور وقوف القطار وتحجز كرسيا كاملا لي ولها ،ثم أشير إليها بالجلوس ،لأيام لم أنطق بكلمة، كنت أكتفي بالنظرات ، ثم سألتها فجأة وبلا مقدمات،ممكن أتعرف بك ،اعتلت حمرة الخجل وجنتاها،وأطرقت لأسفل ، وهمست بصوت لا يكاد يسمع ، ماجدة ،قلت متجاوبا ، وأنا رشدي}[3].

عموما ، إنما يزدان السرد بالاسترسال في التفاصيل ، ونفَس الخوض في أقل ما فيها وتفجير حيثياتها ،وتعرية ما تنطوي عليه.

وإذن … هي تيمة الحب كسلطة مطلقة وقيمة عظمى ، تتجسد في الحمولات والمتون ، وينبض بها كل ملمح جواني ، وما عداها حواش وهوامش تتهم عولمة التوحش ونكشف زيفها.

فبالحب وحده نقوى على مجابهة كل هذا الزيف، ونرسم سبل خلاص الكائن والعالم.

رواية كتبت بلغة سلسة ومعجم عذب ، ورتّبت فصولها أسلوبية إدانة الراهن المُعوْلَم بمسْخ، مستغلا تاريخ تنويم الحب الصادق في أعماقنا ، وتعطيل النورانية والاتزان في الكائن الذي بات غريب الانتماء والثقافة والروح.

ذلك حين تطاوع الذاكرة السرد ، بما يتيح تشكيل فسيفساء إنصاف بشريتنا والاحتفاء في أقصى أبعاد الفلكلوري ،بروح الكائن المعذَبَة والمغتربة.

هامش:

[1]مقتطف من نص” الأب”.

[2]مقتبس من نص ” أخرى ” .

[3] مقتطف من نص” هوامش حياتية”.

شاعر وناقد مغربي

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

التوأمة بين أصوات الأنوثة والانتماء

أحمد الشيخاوي طالما كانت لي العديد من الوقفات مع تجربة الشاعر المصري أحمد مصطفى سعيد، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات