لقد كانت القضيّة الفلسطينيّة تيمة رئيسة في الأعمال الأدبيّة العربيّة (الشّعريّة والنّثريّة) نظرا للقاسم الشّعوريّ الوجدانيّ الّذي يجمع بين الشّعوب العربيّة، ونظرا لكون الإبداع حالة إنسانيّة متدفقة الشّعور، تجعل من المبدع يتفاعل ويتلاحم مع أهمّ القضايا والموضوعات المصيريّة؛ إذ يضفي عليها مشاعره وأحاسيسه، ويصوّر ويعالج الموضوع، ويمزج العديد من العواطف مثل الحزن والفرح، التّفاؤل والتّشاؤم، الغضب والسّخريّة.
إنّ المبدع هو رسول الحقّ والخير والسّلام – خاصّة الشّاعر – فهو يؤثر بقوّة في المتلقّين، ويغرس فيهم روح التّحدّي والمقاومة، ويحاول تعطير أرواحهم بنور الوعي والحماسة، فالشّاعر أصدق في عاطفته وشعوره، وإحساسه بوجع أمّته، ومرارة حاضرها.
لقد ظهر الاهتمام بالقضيّة الفلسطينيّة في الأدب العربيّ الحديث والمعاصر بصورة أقوى وأبلغ، خاصّة النّصوص الشّعريّة لشعراء عرب تبّلوا مواضيعهم ومشاعرهم بالحسّ القوميّ؛ فتقاسموا حبّ العروبة والقوميّة، واستجابوا لنداء الوطن المغتصب، فسبقت مشاعرهم أقلامهم، وتلاقحت رؤيتهم الشّعريّة مع واقع موّات مؤلم عنيف، تسكنه أعاصير الصمت، وبراكين التدمير بنوعيه الماديّ والمعنويّ، فعبّروا عن يوميّات الفلسطينيين الأليمة، عن وحشيّة الصّهاينة، عن خيبات الألم في العرب الّذين باعوا ضمائرهم، وانحنوا لتلامس رؤؤسهم الأرض من شدّة الانتكاسة والخنوع للآخر؛ إذ ماتت الضّمائر، وخرست الألسنة، وتكدّس الوجع، واكتحلت القلوب، فلم يكن سوى القلم وسيلة معنويّة للمقاومة، فشحنوه بصبرهم وإرادتهم، وإيمانهم العميق بالقضيّة الفلسطينيّة العادلة، وقد ظهرت فلسطين بصورها الماديّة والرّمزيّة، بأماكنها وشخصياتها، ورموز مقاومتها، ويوميات شعبها البائسة مع العدوّ، وصور القهر والعدوان والطّغيان، إضافة إلى القيّم والمبادئ الجليلة في قصائدَ كثيرة، وليس هناك شاعر رسم مأساة وطنه بحبر قلمه ودمه مثل شاعر القضيّة الفلسطينيّة “محمود درويش” الّذي أفنى حياته وروحه لرؤية بلاده حرّة، وبقيت حرقة وطنه ساكنة وجدانه حتى وافاه أجله، فرحل وهو يحمل مشاعرَ الألم والقهر والخوف على مصير وطنه، يقول في إحدى قصائده:
“بلاد على أُهبة الفجر، صرنا أقلّ ذكاء
لأنّنا نحملق في ساعة النّصر:
لا ليلَ في ليلنا المتلألئ بالمدفعيّة
أعداؤنا يسهرون وأعداؤنا يشعلون لنا النّور
في حلكة الأقبيّة.”
ونجد الشّاعر السّوريّ ” ذو النّزعة القوميّة “نزار قبّانيّ” قد احتفى بالقضيّة الفلسطينيّة إيمانا منه بعدالتها وقيّمها، وحقّ الفلسطينيين في العيش بأمان وسعادة وسلم وحرّية، وقد مزج الشّاعر الموضوع السّياسيّ بالرّموز الأدبيّة والتّاريخيّة والأسطوريّة، وقد طغت على قصائده نبرات الخيبة والسّخريّة والتّحدّي والانهزاميّة، فيقول في إحدى القصائد:
“إذا خسرنا الحرب لا غرابة
لأنّنا ندخلها
بكلّ ما يملك الشّرقيّ من مواهب الخطابة
بالعنتريات الّتي ما قتلت ذبابة
لأنّنا ندخلها
بمنطق الطّبلة والرّبابة
صراخنا أضخم من أصواتنا
وسيفنا أضخم من قاماتنا
خلاصة القضيّة
تُوجز في عبارة
لقد لبسنا قشرة الحضارة
والرّوح جاهليّة
بالنّاي والمزمار
لا يجد انتصار.”
وغيرها من القصائد والدّواوين الكثيرة الّتي عنيت بتصوير الهمّ الفلسطينيّ، ويوميات الشّعب الفلسطينيّ، قصائد تدعو للحريّة، والاستنهاض، والوعي، وضرورة التّلاحم الجماعيّ لنصرة القضيّة العادلة. وقد جاءت القصائد محمّلة بالحسّ القوميّ والإنسانيّ، تتجاوز مرارة الواقع لتلامس نور الحياة السّعيدة.
إنّ الأعمال الشّعريّة – رغم كثرتها – أغفلت تناول تفاصيلَ مهمّة جدّا، ونقل يوميات الفلسطينيين بصورة أعمق، فنحن بحاجة ماسّة إلى دواوين وقصائد تحتفي أكثر بالقضيّة الفلسطينيّة وتنصفها، وتنقل صوتها وصداها إلى العالم، من أجل إبراز الوضع الفلسطينيّ بصورة أوضح، وصورة الآخر الوحشيّ الهمجيّ، وفضح تقاعس السّلطات السّياسيّة العربيّة عن نصرة فلسطين.
نحتاج إلى إبداعات شعريّة فيها ثورة وحداثة وجدّة، من خلال إدخال آليات التّجريب شكلا ومضمونا، والاهتمام بالبناء البصري والرّمزيّ للقصائد، والسّرد الشّعريّ، والتّنويع في الأساليب والمضامين حتى نحقّق ثورة الشّعر، وثورة ضدّ المستعمر.