لاحظت زميلاتها في العمل أن بطنها أخذ ينتفخ، ونفس الشيء لاحظه الجيران…، أما هي وأمها، فظلتا تكتويان في صمت، وتبحثان عن طريقة لستر الفضيحة.
كانت تشتغل في إحدى ضيعات البرتقال على الضفة اليسرى لنهر سبو، تغادر الحي الصفيحي صباحا رفقة زميلاتها بعد الفجر، ويتوجهن إلى الضيعة مشيا على الأقدام، يذهبن مزودات بغذائهن المكون غالبا من خبز وشاي، أو مرق وسردين مقلي في أحسن الأحوال. في طريقهن يرددن أغاني الحب والفقد والغربة..
يذهبن نشيطات، ويعدن، قبيل مغيب الشمس، منهكات، يمضين النهار كله في العمل المضني، تحت إمرة ميمون، رجل استقدمه صاحب الضيعة من الريف ليتولى مراقبة العاملات، وهن يتسلقن أغصان الأشجار لقطف البرتقال، وملئه في صناديق، ثم يصدر الجيد منه إلى الخارج.
عُرف ميمون بغلظته وقسوته على العاملات، يظل واقفا يصرخ، وينادي بمواصلة العمل بنفس الوتيرة، ولا يسمح إلا باستراحة قصيرة بعد الظهر، يتناولن خلالها الغذاء، ويسترحن قليلا.
ظلت الألسن تتحدث عن هذا الريفي القوي البنية ذي العضلات المفتولة، والقامة الطويلة، والشارب الكث، وعن معاملته القاسية للعاملات، وعن تفانيه في خدمة الضيعة. فهو يمضي كل يومه فيها، يشتغل مراقبا نهارا، وحارسا ليلا، وحين يستولي عليه التعب، ينام قليلا، ويترك كلابه تتحرك، وتحرس الضيعة خشية تسلل اللصوص لسرقة البرتقال، وبيعه في الأسواق المجاورة.
هكذا ظل ميمون، لكن الملاحظات، على خصوص لاحظن أنه تغير رأسا على عقب بعد التحاق سمية بالعمل، فهي حديثة العهد بالضيعة مقارنة مع النساء اللواتي اشتغلن فيها ما يقارب العقد من الزمن. لقد تجاوزت هذه الفتاة الجميلة بالكاد السنة الواحدة والنصف كعاملة، تبلغ من العمر عشرين سنة، وهي يتيمة الأب، وغادرت المدرسة مبكرا.
بعد التحاق سمية بالضيعة أخذ ميمون يطيل النظر إليها، ولا ينتبه إلى العاملات المتهاونات. ومع توالي الأيام بدأ يختلي بها بعيدا عن الأنظار، وينسى تماما مهمة مراقبة العاملات اللواتي أصبحن يعملن في جو مريح، يسمح لهن بترديد أحلى الأغاني عن الحب والرجال…، بل ويملأن صدورهن، وحتى أكياس البلاستيك بالبرتقال، وهن اللواتي لم يكن باستطاعتهن تذوق برتقالة واحدة خوفا من غلظة ميمون وبطشه وعقابه.
سمية وردة نبتت في عز الخريف، والداها فقيران، ورثا الفقر عن الأجداد. تربت في حي صفيحي على الضفة اليمنى لنهر سبو، وولجت المدرسة في السادسة من عمرها، وغادرتها بعد ست سنوات مباشرة بعد وفاة والدها غرقا في البحر إثر محاولة فاشلة للعبور إلى الضفة الأخرى، في مغامرة أودت بحياة الكثير، ونجا منها القليل.
بعد وفاة الأب، الذي كان يشتغل بناءً قبل محاولة الهجرة إلى إسبانيا، وجدت سمية وأمها نفسيهما في وضع مادي حرج، فاضطرتا معه إلى الخروج بحثا عن لقمة العيش، اشتغلت الوالدة في أحد مقاهي المدينة الصغيرة، تغسل الأواني، وتهيئ الفطائر، بينما اشتغلت البنت خادمة في البيوت، حيث عانت كثيرا من قسوة المشغلات اللواتي كن يخشين على أزواجهن من جمالها الفتاك خصوصا بعدما أخذت تكبر، وتنضج مفاتنها، وأصبحت محط أنظار واهتمام الرجال.
تركت سمية البيوت، وغيرة رباتها، والتحقت بالضيعة، ومنذ اليوم الأول لاحظت كما لاحظت الأخريات نظرات ميمون المصوبة نحوها، بدت له شجرة ترقص الفواكه على أغصانها، وبحيرة عذبة تستطيع إخماد نيران السنين المتراكمة، تمنى صعود الشجرة، وقطف الفواكه، والارتماء في أعماق البحيرة، وإطفاء ألسنة النيران الملتهبة، ويوما بعد يوم زاد ولع الرجل، فظل تائها بلا زاد، ولا تجربة في صحاري الوجد.
سهر الليالي الطوال، وتوغل في كهوف الصمت، ولم يعد قادرا على العمل، وفي صباح من صباحات الشتاء الندية عزم على ندائها، فاستجابت طيعة متلهفة، لم تبد أي مقاومة، وارتمت في حضنه لأنها أيضا كانت تحترق وسط نيران العطش، افتتنت بجسده القوي، وعضلاته المفتولة، وقامته الطويلة، ونظراته التي تشبه السهام، التقى العطش بالعطش، فتلبدت سماؤهما بالسحب، وهطلت الأمطار.
أخذا يلتقيان باستمرار، تارة في السر، وتارة في العلن، كاد الرجل أن يترك عمله، أهمله إهمالا باديا للعيان، صارت سمية شغله الشاغل، لم يكتف بلقاءات الضيعة، بل بات يقضي الليالي في منزل أمها، الذي صار يقصده كل مساء محملا بقفة مملوءة خضرا وفواكه ولحما، تشفع له عند الوالدة الاختلاء بعشيقته كما يختلي الزوج بزوجته.
انتشرت الأخبار بين العاملات، وبين سكان الحي، وتُوجت اللقاءات بحمل سمية من ميمون، وهو الأمر الذي كان بمثابة صفعة قوية تلقاها العاشق المتيم، وجعلته يصحو من غيبوبة الغرام واللذة، ويطالب معشوقته بالتخلص من حملها، لكن كل محاولات البنت وأمها باءت بالفشل، فواصل البطن انتفاخه، وتكاثرت التوجسات، وعظمت المخاوف، وشيد القلق أبراجه.
قلت لقاءاتهما، وتكررت غيابات الرجل عن الضيعة، فتعرض للطرد بعدما علم مالكها بكل التفاصيل، سمية هي الأخرى، لم يعد مرغوبا فيها، ولقيت نفس المصير. توالت الأحداث السيئة على ميمون وسمية وأمها، وجرت الرياح بما لا يشتهيه أحد منهم، وصلوا جميعا إلى الباب المسدود، فرأت الأم وابنتها أن لا مفر من الزواج، واعتراف الرجل بمن في بطن عشيقته.
توالت الشهور، وتطور الحمل، واقترب موعد الوضع، ازدادت المخاوف والتوجسات، وسادت البيت الصفيحي كآبة لا ينقشع سحابها، واحتل الموضوع مساحة شاسعة من أحاديث أهل الحي داخل البيوت والمقاهي والدروب، وظلت العاملات في الضيعة يسبحن، بلا توقف، في يم سمية الهادر.
ظل ميمون يراوغ، ويموه، ويعطي الوعود، ثم يخلفها، بل أصبح يتوارى عن الأنظار، وكل يوم يبتعد أكثر، وتزداد أحواله سوءً، لتجد سمية ووالدتها نفسيهما وحيدتين في قلب العاصفة، لم تعودا قادرتين على إقناع ميمون، ولا على إخفاء الفضيحة، وإسكات الألسن. وبلغ خبر الحمل إلى الجميع، بمن فيهم السلطة ممثلة في عونها المقدم جلول.
ظل الحمل على كل لسان، وتحدث فيه القاصي والداني، وفي ليلة شتوية باردة، وبينما كان ميمون يصعد قطار منتصف الليل هاربا من حبه الأول، ومن الحمل الذي نجم عنه، كانت سمية تتوجع، وقبل بزوغ فجر يوم جديد، وضعت أنثى، ملأت صرخة ميلادها فضاء البيت الصفيحي.
*قاص من المغرب