تشكيل الرؤيا الشعرية في ديوان “الرقص على إيقاع الصمت” للشاعر رشيد طلبي.
1ـــــ توطئة شعرية:
القصيدة عندي هي القصيدة المتفردة، جزء في الكل، وكل في الجزء، القصيدة المفتوحة على الواجهات، التي تغتزل سفرا ثقافيا يمتد عبر العالم، يصب في مجرى النواحي الانسانية المتعددة، حفر أركيولوجي في وجودية الذات، واستبطان لنبض العالم، إنها القصيدة الكلية المتفردة المتمكنة من كل وسائل العصر، هذا الانسان المعاصر الذي سبق فكره واقعه، اطلع على موارد المعرفة المقروءة والمرئية واكتشف ضالته، فشاهد البون الشاسع بينه وبين واقعه، هذا الواقع المتأزم الذي فرضت طبيعة الحياة التي تقوم تاريخية على أصل الصراع والحروب، والشر والخير.
القصيدة المعاصرة ليست بعيدة عن تراثها، تعب منه طاقتها ومخزونها، لكنه تقلد طرق الشعر القديمة في الدهشة والمعنى، وليس في الشكل والقوالب الصارمة، بشكل تتيح للشاعر أن يسترد هذه القصائد الراسخة، بنظمها وقوالبها فينفخ فيها روح المعنى الحديث، فتصبح وجدانيا وموسيقيا وفكريا وثقافيا ذات بعد متكامل مؤثر حينا، وصادم حينا، إلا أن الصدمة تكون صدمة وجدانية تأثرية تنعش الروح وتستفيق من ظلمة وحلكة الشر، فتنشدها الخير، وتنشر من خلالها معاني التسامح والسلام والمحبة، والرحمة، الرحمة بالإنسان، من أجل عظمة الإنسان والإنسانية.
- قراءة أولية في العنوان:
الرقص: لغة هز الجسم وخفضه بحركات موزونة، أو رفع الأطراف أو الأصابع على إيقاعات الموسيقى، واصطلاحا: تحمل معاني الكلام فالشاعر يحاول ضبط إيقاع كلامه بالرقص تارة، والتنغيم تارة، فالحياة في مجملها ترقص على إيقاع فرح أو نقيضه الحزن.
على: على الشيء فهو عال وعلي وتعلية، قال الشاعر الجاهلي امرئ القيس: كجلمود صخر حطه السيل من عل، الاستعلاء فوق الشيء، ووضعه فوق.
الإيقاع: مصدر أوقع، إيقاع موسيقي، إيقاع غنائي، تناغم الأصوات والأوزان في الغناء والعزف، وتوافقها، بناء ايقاعات الكلام على نغم موسيقي أو أوزان موسيقية.
وفي الشعر علم الإيقاع يعني: دراسة الأوزان الشعرية والإيقاع.
الصمت: صمت صموتا فهو صامت، سكت ولم ينطق، وضده تكلم أي خرج من صمته، ويقال لغير الناطق صامت أو ساكت.
يحمل العنوان مفارقة دلالية بين الرقص على إيقاع موسيقي حيث يغلب عليه نوع من الحركة والصوت في مقابل الصمت ودلالاته تعني الهدوء، والتأمل، ففي الشعر هناك منطوق، وهناك مسكوت عنه، أو مضمر خلف الكلمات، والشاعر يولد علاقة بين الظاهر والباطن.
- حد الشعر والمجاز:
اختلفت تعاريف الشعر فمنه القديم ومنه الحديث ومنه المعاصر، وكل التعاريف، لم تستطع إعطاء وصف للشعر، فكل التعاريف ناقصة، في ظل هذا الشعر الذي يسلب الألباب حينا ويمتع بالإيقاع حينا.
وقد نعرفه فنقول: العلم بالشيء والفطنة له والإحساس به[1]، فقد تعددت تعريفاته بتعدد اتجاهاته ومدارسه الشعرية، وكان حده المشهور: “كلام موزون مقفى”، نسبة إلى موسيقاه وايقاعه، ويحكمه الخيال والشعور والعاطفة، ويحركه الوزن. ويتوفر على قافية وروي، في آخره.
المجاز: استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، إذن فالمجاز يسمي الشيء باسم ما قاربه أو ما كان باسمه.
- تكثيف المجاز :
يقول الشاعر رشيد طلبي:
أبسط يدي للنسيان
…. ….. …..
أطوي خطى الليل
فيطوي التسكع آخر شذرات ودمعة الماضي
هذا الملتقى
لا زالت تندب فوق لهاث الذاكرة[2]
قصيدة حجر على منصة الصمت
يلملم الشاعر المغربي رشيد طلبي مجازاته عبر الزمن في قصائد متميزة يختزل الماضي والحاضر، فهو يبسط يده للنسيان غير آسف، ويسجل للماضي دمعه، بل إنه يذكر التيه الملازم لغربة الإنسان في عصرنا الحالي، إنها غربة الذات في ظل احتراق العالم واحتراق العمر، فالعمر يقابل الزمن والعالم، يتشكلان في نطان واحد من الحركة مع ذاته، فيطويان تسكعه وشذراته وأفكاره، ليلملم شتات هذا العالم.
ويقول أيضا:
أنظر للساعة في معصم الظهيرة، الوقت أشياء تمر
وأخرى تأتي لم يسعفني كل هذا الانتظار،
آخذ أجزائي… منتظرا سقوط آخر
لهذه النبوءة في عين الأفق لأعود…
قصيدة خطوات خاطفة
تحضر أنواع المجازات لتصف عنفوان الصمت الذي يتحول إلى إيقاع يتغنى بنشيد الحقيقة وينطق بمآسي العالم، فتصبح الحروف مظلمة وتعج بالضجيج وتنتعل الأفكار، فكل شيء يتحول إلى حركة للعالم، وتصبح الأشياء هنا كأنها ذوات تتحرك، فيحمل الشاعر مجازاته عدة أوجه حقيقية وغير حقيقية، لتكسر حاجز الصمت والفراغ في حياة الشاعر.
ويمكن تفسير هذا النزوع نحو الغموض في رغبة الشاعر الداخلية تطويق شعره بهالة مقدسة من التشبيهات ليخرج عن السائد والمألوف، فهل تستطيع اللغة بكل ما تحمله من قدرة على الاختزال والتكثيف، وصف كل هذه المجموعة من المشاعر: الحزن /الماضي/ الموت/ المعاناة /الغدر /الفراغ؟
انتعلت أفكاري … والأحذية تمتص عبرات تشردي
- التوازي: هو ذلك التطابق والتشابه بين متواليتين لغويتين، أو جملتين أو كلمتين أو شطرين، على مستوى البنية الدلالية والصرفية والمعجمية والإيقاعية والإعرابية: ونجد بعض الأمثلة في قصائد متفرقة في الديوان كالآتي:
التوازي التركيبي من حيث الإعراب:
تكرار يا وطني عدة مرات:
يا | أداة نداء مبنية | وطن | منادى منصوب | الياء | ضمير مبني في محل جر |
التوازي الصرفي:
لك أشعاري | لك أقلامي |
لك أفعالي | لك أفعالي |
التوازي بين الأسطر الشعرية:
حاول الشاعر تكرار بنية هندسية متسقة الدلالة ، حيث لاءم بين مجموعة من الحروف والكلمات والعبارات، محاولا تحقيق التكامل والتناسق والانسجام بينها، حيث جعل الشطرين في كل بيت كطرفين متماثلين، ومتعادلين في بنيتهما التركيبية حيث وزع عناصر تلك البنية وفق النظام التالي:
لم | تسعفني | القصيدة | لم | يسعفني | الرحيل |
لم | تسعفني | الكلمات | لم | تسعفني | نهديك |
التوازي بالترادف: الجنون/ حماقاتي سماء بسماء أرض بأرض
التوازي الدلالي بالتضاد: صمتي/ كلامي سماء/ أرض
تكرار الحروف: تكرار حرف لا مرتين : لا ضوء / لا مكان
شوقي سقط من بساط الشوق الموحش : تكرار حرف السين والشين والقاف.
تكرار السطر الواحد كلما أشتهي حرفا تكرار بين كل مقطع 3 مرات
تكرار العبارات والكلمات: يا امرأة / نصف امرأة / خذني أيها الشعر2 مرات | يا وطني …
- ـ الحقول المعجمية:
حقل المكان | حقل الذات | حقل الطبيعة | حقل الحب | حقل المشاعر الإنسانية |
المقهى ىـ دمنات ـ بني ملال ـ عين أسردون ـ المدينة ـ طنجة… | كلامي/ يدي/ قلبي/ المعصم/ الذاكرة/ اللهاث/ الوجه/ الجسد/ دموع | الليل/ النهار/ الصباح/ الشتاء الأرض/ السماء | حبك/ قبلاتي/ الاشتياق/ ضميني/ صبابة… | الاحتراق/ الرحيل/ الاشتياق/ الحزن/ القلق/ الصمت |
نلاحظ حضور حقل المكان بقوة، إلى جانب حقل الذات فالشاعر يعبر عن اشتياقه الدائم من خلال المرأة والمكان والمشاعر الإنسانية، ومعاني الأمل والحب .
قصيدة: مساء حزين:
عندما تتكئ المدينة على فجوة
ليل…
وطيور الظلام
ترسم حدودا على رصيف العابرين
فبسمة وجهك أيها المساء
زمن يسرق من طفولة الفراش
ألوان الليل
ومن فمي تسقط القصيدة
على انكسارات يدي….
فمساء حزين…
عندما يتشظى حزنك في أعين السفر
وبراثن … موت
أيها المساء.
في هذه القصيدة يحاول الشاعر التأكيد على حزنه ذات مساء، عن طريق تكرار اللازمة الشعرية “مساء حزين”، موجها خطابه إلى الليل الموحش المظلم، مخاطبا إياه كأنه إنسان، مشخصا بسمة وجهه، فالمساء في مدينة كبيرة يوحي بنهاية اليوم في انتظار يوم آخر مشع، مفعم بالأمل انتظار الذي يأتي أولا يأتي، تجنبا لذة الانكسار والحزن الملازم ليومه ذاك، ومشاعره الجياشة، التي ترسم اللحظة الزمنية متقطعة كأنها حلقات فراغ، غير متصل بعضها ببعض.
- المستوى الإيقاعي: ظاهرة التكرار:
يوما يوما ورقة ورقة شوقي شوقي كذبة كذبة | لك الجنون لك حماقاتي لك الفراغ لك الحلم | لك الحب لك أشعاري لك أقلامي |
تتجلى انسيابية المعنى عند الشاعر في تكراره للمرادفات، على شكل متواليات، للتعبير عن مدى شعوره بالفراغ الذي ولده طول الانتظار، فيتحول الشعور إلى امتدادات عبر التاريخ وعبر الزمن، وهو ما يشكل التوازي الدلالي للقصيدة.
يتضمن إيقاع النص موسيقى شعرية تتأرجح بين تفعيلات عدة، لا يوحدها بحر واحد، فتارة الاعتماد على تفعيلة متفاعل فعول، وهي الأقرب إلى البحر الوافر، البحر الممتع السهل، الذي يطاوع الشاعر في إرسال شجيته على إيقاعات حزينة ومشاعر متدفقة، وتارة البحر الطويل مفاعيلن فعولن، وقد أضاف بنية قوية متماسكة، إلى أسلوبه لغة وإيقاعا، معتمدا أيضا قافية متنوعة، وروي متنوع ومختلف.
على مستوى الإيقاع الداخلي تكرار الحروف بكثرة التاء، الراء، الباء، القاف، السين، الميم…ونلاحظ تكرار الكلمات والحروف والجمل والعبارات…
المراجع:
ـ المصطلح النقدي في نقد الشعر، دراسة لغوية تاريخية، نقدية، إدريس الناقوري، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1982.
ـ الرقص على إيقاع الصمت، رشيد طلبي، منشورات دار الثقافة، مطبعة دار المناهل 2012.
[1]ـ المصطلح النقدي في نقد الشعر، دراسة لغوية تاريخية، نقدية، إدريس الناقوري، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1982. ص: 197.
[2] ـ الرقص على إيقاع الصمت، رشيد طلبي، منشورات دار الثقافة، مطبعة دار المناهل 2012، ص: 7ومابعدها بتصرف.