“التشكيل الأدبي والفني في ديوان (تمسك بجناح فراشة)”رائد محمد الحواري ــ فلسطين

هناك بعض الشعراء يستخدمون اللغة العادية، المتداولة، لكنهم يشكلون منها نصوصا مذهلة، كحال المشغولات الريفية المنجزة من القش، فرغم أن المادة بسيطة لكنها تبهر المشاهد، إن على مستوى الشكل الفني، أم على مستوى الفائدة/المضمون، ديوان “تمسك بجناح فراشة” يعد من تلك الأعمال الشعرية التي تخاطب المتلقي بلغة بسيطة وسهلة، لكنها تتميز بالتشكيل الأدبي، لهذا نجدها جميلة ولافتة، سنحاول التوقف عند بعض ما جاء في الديوان لتبيان تلك الجمالية.

غالبا ما يكون للواقع إشارة فيما يقدمه الأدباء/الشعراء، فهم يعيشون في بيئة وبالتأكيد ستنعكس عليهم، إن كانت سلبا أم إيجابا، يقول الشاعر في قصيدة “لا تقتلوه”:

“…

أتخيل في جيبي نبيا وبضع أتباع

لا أعرف كيف دخلوا،

لن أقلق حياتهم الصغيرة

ولا يمكنني إخراجهم من جيبي،

صرت أخاف عليهم

كلما سمعت طرقات باب

أو شاهدت دورية شرطة.

حلمت ليلة أمس

برجال غرباء

أخرجوا يدي من جيبي

فخرج معها إنسان يشبهني

ناديتهم مثلما نادت آسيا فرعون

لا تقتلوه…!

لكنهم قالوه

قتلوه” ص15و16،

اللافت أن الشاعر يتحدث عن المعارضين السياسيين بصورة نقية، فشبههم بالأنبياء، الصحابة/الحواريين،وهو بهذا يعيدنا إلى البدايات، أيام العمل السري، عندما كانت الأحزاب تمثل الخلاص من الواقع البائس، وكان قائد/رئيس الحزب يتماثل مع الأنبياء بعطاء صدقه وتفانيه، وهذا الطرح بحد ذاته مهم، حيث يجعل المتلقي يشعر بالهوة الشاسعة بين ما كان وبين ما هو  الآن، ونلاحظ  اللحمة التي تجمع الشاعر بهؤلاء من خلال قوله: “لن أقلق، ولا يمكنني إخراجهم، أخاف عليهم” فهذه العلاقة بحد ذاتها كافة لتبيان حجم الانتماء عند هؤلاء الحزبيين، وعلى الوحدة التي تجمعهم، فهم ينكرون ذاتهم للحفاظ على الآخرين/الرفاق/الأخوة،  من هنا نجد الشاعر  لا يتحدث عن المكروه الذي أصابهم مباشرة، بل جعله يأتي من خلال الحلم، وتجاهل وجودهم وجعل من نفسة الضحية، “إنسان يشبهني، لكنهم قتلوه، قتلوه”، فتكرار لفظ “قتلوه” ثلاث مرات، مرة جاءت بحالة النفي على لسان الشاعر، ومرتين كحدث واقعي، يشير إلى حرص الشاعر على هؤلاء الرفاق/الأخوة وعلى صدقة عندما قال: “أخاف عليهم”.

فالعقل الباطن للشاعر أخذه إلى نكران الذات، بحيث جعل الأذى يصيبه هو دون رفاقه/أخوته، وهنا يكون الشاعر قد قدم مضمون أخلاقي/إنساني نبيل، ينمي فكرة الخير والعطاء عند القارئ، مستخدما لغة بسيطة وسهلة تجعله يشعر بصدق المتكلم/الشاعر.

وإذا ما توقفنا عند العنوان والخاتمة “لا تقتلوه” والتي تأخذنا إلى القرآن الكريم، سنجد أن هناك تقديم فكرة النقاء/الصدق عند (الحزبي) بطريقة غير مباشرة، فالشاعر جعل المتلقي يذهب إلى كتاب مقدس، القرآن الكريم، وهذا ما أكد على صدق ودقة ما جاء عن الرفاق/الأخوة، وهو بهذا يدعو المتلقين إلى التقدم من تلك الينابيع الصادقة، لينهلوا من ذلك العطاء، ويتعرفوا على هؤلاء الأخوة/الرفاق وكيف أعطوا وقدموا وضحوا.

قبل أن نغادر القصيدة نشير إلى أن الشاعر لجأ إلى الفانتازيا كشكل أدبي، وهذا ما يشير إلى شدة وقسوة الواقع الذي يمر به الشاعر، فأتجه نحو شكل أدبي متخيل يساعده على (الهروب) من الواقع البائس, وهذه الفانتازيا لم تقتصر على هذه القصيدة فقط، بل نجدها في أخريات، مثل قصيدة “أين يمكن أن يذهب رأسي” والتي يقول فيها:

“هناك شيء حدث هذا الصباح

لا أعرفه

شعرت براحة عجيبة

يمكنك أن تسميها سعادة

لم أشعر بالجوع والعطش

ولم أرغب في سيجارتي المفضلة

حسنا يبدو هذا جيدا

أسمع أصوات من في البيت

دون أن أراهم

هناك شيء مروع

وعليّ أن أعرفه

مددت يدي إلى رأسي

مثلما يفعل أي شخص تصيبه الحيرة

لكني لم أجده!

مؤلم أن تعيش دون رأس

صحيح أنك تشعر بلذة غريبة

لكن الأمر

يشبه من يفقد نقوده في مدينة غريبة

أين يمكن أن يذهب رأسي

في هذا الصباح المزدحم

أدرك أنه يعرف عبور الشارع

لكني أخاف عليه

من الرؤوس التي تترك أصحابها ولا تعود” ص60و61، إذا ما توقفنا عند الألفاظ المجردة يمكننا الوصول إلى ما يُراد طرحه في القصيدة، فهناك مجموعة ألفاظ وعبارات تشير إلى ما يمر به الشاعر: “لا أعرفه، لم أشعر، ولم أرغب، دون أن أراهم، مروع، الحيرة، لم أجده، مؤلم، غريبة (مكرر)، المزدحم، أخاف عليه،  لا تعود” فاستخدام “لا، لم/ دون” يشير إلى نفور الشاعر وعدم انسجامه مع الواقع، وهذا ما برر استخدامه صورة (غير منطقية) فالعلاقة بين حروف النفي التي ترفض الواقع، وبين وعدم منطقية الحدث، توصل فكرة التناقض بين الشاعر وواقعه، وبما أن الشاعر يستخدم لغة سلسة وسهلة، فقد جعل القصيدة تصل فكرتها بسهولة إلى القارئ، مستمتعا بهذه التجانس بين مرارة الواقع وجنون الطرح/التقديم.

ونجد الفانتازيا في قصيدة “كيف عشت”:

“تركتهم يفعلون كل شيء

لقد تعبت

وربما مت

احضروا صندوقا خشبيا

ووضعوني بداخله

بدا الأمر مضحكا لي

ومحزنا لهم

شعرت بأنني بضاعة معلبة

تطرح في سوق غريبة

لكنني مضيت

هناك من تكفل بالمهمة

أنزلوني إلى أعماق  الأرض

كنت أنظر بكل بصري

صرخت

لكن التراب تهاوى

على ثيابي الجديدة

نمت بكامل خيالاتي

المعلقة على الجدران

وصحوت على صورتي

المعلقة على الجدران

بشريط أسود

قلت لعائلتي النائمة

لقد عدت

لكنهم لم يصدقوا

أنا أيضا خفت من الحياة

وهالني عجب غريب

كيف عشت كل هذه الحياة” ص97-99، إذا ما توقفنا عند (أحداث) القصيدة سنجد التسلسل والشرح (المفصل) لما جرى للشاعر، لكن هنا (قفز) واضح في هذا المقطع: “لكن التراب تهاوى/على ثيابي الجديدة/نمت بكامل خيالاتي” فهو لم يحدثنا عما أصابه/ما شعر به بعد تهاوي التراب عليه، وانتقل مباشرة إلى “خيالاتي” والعودة إلى بيته، أعتقد ان هذا (القفز) له علاقة بالانتقال من الحياة إلى الموت، فهذا الانتقال بالنسبة للميت، سريع وخاطف ويتماثل مع حالة النوم، وهذا ما أكده الشاعر عندما قال: “وصحوت” ففي البداية لم يشعر بأنه انتقل إلى حالة جديدة، لكن عندما أدرك واقعه الجديد، ضرب ضربته الموجعة مؤكدا على قسوة الحياة: “كيف عشت هذه الحياة”.

فالشاعر أوصل فكرة تفاهة الحياة وعدم قيمتها، لما فيها من قسوة وألم بطريقة مذهلة، فالقارئ كان يتوقع منه أن يسهب في الحديث عن علاقته بأهله الأحياء، لكنه قطع المشهد بصورة صادمة للمتلقي، بحيث جاء قطع تسلسل الأحداث منسجما مع فكرة تفاهة الحياة التي تحملها القصيدة.

وأيضا نجد لشاعر يؤكد على العلاقة بين العنوان “كيف عشت” وبين خاتمة القصيدة، وكأنه يريد من المتلقي ان يبقى منتبها إلى الفكرة التي يطرحها، ولا ينساق وراء (التخيل) وجمالية الشكل الفني للقصيدة، وهذا له علاقة برؤيته للحياة التي يراها تافهة ولا تستحق أن تعاش.

لكن هل هناك مبرر للشاعر لأتخاذ هذا الموقف من الحياة، من الواقع؟، يجيبنا في قصائد أخرى، منها قصيدة “ضجر” التي يقول فيها:

“إن ضجري شاسع وأليف

حد أنني أعلقه

مثل جرس في عنقي

فاسحاً المجال لكل السعداء

بفرصة الهروب من رؤيتي” ص49، اللافت في هذه القصيدة أن الشاعر يؤكد على نبله وعطاءه وتماثله مع الأنبياء، الحزبين القدماء، حيث أنه يريد الآخرين أن يكونوا سعداء، حتى لو كان هو متعب/بائس/مرهق/يائس من الحياة، فحب السعادة للآخرين يعد فضيلة وتحسب للشاعر، هذا على مستوى فكرة القصيدة، لكن على مستوى الألفاظ المستخدمة، فنجد أن الشاعر نسب لنفسه “ضجري شاسع أليف، فاسحا” فهو يستخدم أوصاف ناعمة ويقوم بأفعال نبيلة، فحتى ضجره قدمه بصورة جميلة وهذا يشير إلى حجم العطاء الذي يعطيه، ويشير إلى نكرانه لذاته “الهروب من رؤيتي” في سبيل إبقاء الأخرين “سعداء”، فالشاعر استخدم لفظ واحد متعلق بالأخرين “السعداء”، وهذا يعكس ما يحمله العقل الباطن، فهو يريد/يرى سعادة الآخرين أهم غاية يقدمها لهم.

الديوان من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، الطبعة الأولى 2021.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي

د.حسن بوعجب| المغرب             لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات