“سؤال التابو في مجموعة (مرافئ العشق) للمغربي سفيان البراق”أحمد الشيخاوي ـ المغرب

لعل القاص المغربي الشاب سفيان البراق ، في منجزه القصصي عموما ، لا يستهلك الواقع مثلما هو على قواعده وأصوله ،بقدر ما يعاود إنتاج هذا الواقع المشوّه والناقص، تبعا لاتساع الرؤى  في المتن الحكائي ، ووفقا لإمكانات تدوير معاني المستور والهامشي وأدقّ تفاصيل اليومي ، ضمن حدود ما يمليه نضج التجربة واختمارها ، فهو بذلك ، لا يجترح اتّهاما مباشرا للراهن ، وإنما يُخضع لعبة القص ، لديه ، إلى إدانة واعية من خلال شخصيات سرديته، الشيء الذي يمنح حضوره القصصي طابع الاستثناء والفرادة.

فمثلا ، نلفي الثورة التكنلوجية بالأساس وقد فضّت الكثير من جوانب ثقافتنا المُحافظة ، كما عرّت العديد من أوجه التابو، غير أن السرد من منظور البراق ، ينبغي أن يحيل على الحالات الأكثر نشازا وشذوذا عناية بالطقس الذي يصون للنوراني والطاهر والروحاني حضوره ويغذي بشكل قوي ولافت حضوره ، فيأتي بقصة تخبرنا أنه في زمن هذا الغزو التقني الكبير ،وفي غمرة هذه الثورة التكنلوجية والحضارية الجارفة ، يوجد من يعيقه التابو فيقيّد وجوده به، وتستعبده ذاكرة التحفّظ ، وتحول دون ممارسته لما هو من حقه ووالج في حيز حرياته ، تماما مثل ما يسوقه إلينا من فصول في جديد مجاميعه التي انتقى لها وسوم” مرافئ العشق”،منشورات ويلوز ـ جوبا ، جنوب السودان ،طبعة2021 ،كما في قصة ” بويضة عصية “، بحيث يقول:

{ زارا الطبيب، سألهما عما يفعلانه في فراشهما ليلا، فأجابا بصوت واحد : ” ننام” . سألهما الطبيب: “ألم تسهرا ليلية في شيء جميل ؟” . قهقه الشاب قهقهة خجولة واحمرّ وجهه، وهو يقول: “بلى . ذات ليلة ، انفجرنا ضحكا من طريفة حكتها لنا أمي في ذاك المساء”. انفجرت الفتاة ضحكا ، التفت إليها الطبيب، فسكتت ، وطأطأت رأسها خجلا .ثم سألهما الطبيب بلغة مباشرة : ” ألم تناما في فراشكما عاريين ،وتقبلا بعضكما بعضا؟ “. ركز الطبيب نظراته الجادة في الزوج ،وسأله : ” ألم تدخل قضيبك في فرجها ؟”.كاد الزوج يذوب من الخجل. التفت يمنة ويسرة. تأمل في سقف العيادة وكأنه يبحث عن ثقب لعله يخرج منه. سمع الباب يغلق وراء الزوجة التي هربت من مكتب الطبيب من هول السؤال شديد الإحراج.}(1).

إنما يدلل هذا على الكون الرصد الحرفي للواقع بات ميؤوسا منه ،وغير باعث على المتعة والتشويق وجذب المتلقي إلى عوالم السرد في نيو كلاسيكيته المتدفقة والمحمولة على روح ابتكار المعنى وترويضه.

فواقعنا الذي يعرف الكثير من “التطور” مع تحفظي الشديد على ما قد يفيد المفهوم بالمعنى الحضاري الإنساني ، كننا نظل أنأى ما نكون عنه ، وخارج أفلاكه في مجمل حياتنا على تلون توجهاتها وأطيافها ومشاربها.

إنما المعنى الكبير والغرض من مثيلات هذه القصة ، يكمن في إحراجنا واستفزاز النقي والأبيض في ذاكرتنا.

كون تلكم سلوكيات تكاد تنقرض، وضرورة بعثها في السرد والكتابة الإبداعية والثقافية ، إجمالا ، وجب تفعيلها وتخليقها أكثر من أي وقت مضى ، في زمن فضح كل شيء كي ينقد ثقافة التابو من حيث لا ندري نحن، ككائنات تتقن مزاولة الخيانات مع مرايا الذات فقط .

هذه هي النوافذ الحقيقية التي قد يعبر منها المتلقي ، إلى عوالم القص لدي كاتب مبدع ما ينفك يجّود اتهاماته لراهن بلا ذاكرة ، من خلال إدانة الإنسان المتنكر لذاته وهويته وجذوره ، ساعيا خلف السراب ” الحضاري” الذي لم يعد بمقدورنا سوى استعذاب طعناته والتلذذ بنكباته والتكيف مع أوبئته أيديولوجية كانت أم مجتمعية أم وجودية.

ينتهج القاص كهذا انفلاتا ، وتمتح إيقاعات سرديته من هكذا نزوعا ، في جملة من المحطات ، العاطفي منها والاجتماعي والوطني ، فلنفيه يقول ، أيضا:

{ كانت الطيور محلقة في السماء ترمي ببصرها الأرض باحثة عن فتات خبز أو حبوب تناثرت هنا أو هناك في غفلة عن مشتري الأكياس. لم تعد تخيفها الفزاعات ولا ما يبتكره الإنسان ليرهبها . اعتادت حياة البشر ، وسئمت من أفعالهم العدوانية تجاهها . شقت السماء بخيوط متصلة من الماء، كان المطر ينهمر كشلال هادر. الفرح مرادف لركض الغيوم في السماء،إلى أن تعتصر حتى تطلق ماء يبعث برائحة التراب، وينعش شجرة الرمان التي غرستها جدتي في ركن قصي بمنزلنا، ويخلف لونا محمّرا يعلو وجوه الناس من شدة الغبطة والابتهاج.}(2).

ويقول أيضا:

{ تطاول هذا المعتوه على تلك المرأة المثقفة، التي قرأت في سنة واحدة ما يقرأه جل الطلاب الجامعيين في ثلاث سنوات .

ذبحتني كلماته ونعوته المجحفة. لهذا لا أحب الندل ، ولا أدعهم يدخلون معي في حديث طويل الأمد. هو لا يحب رواد المقهى، بل يعشق البقشيش عشقا لا ينتهي. اهتم بالبقشيش أيها النمام فما بينك وبين الثقافة إلا الخير والإحسان.}(3).

من هنا جوهرية وعمق وجمالية السرد لدى القاص المغربي الواعد سفيان البراق، في تعالي فضاءاتها عن الإدانة المباشرة للواقع ، تُسقط عليه من أوجاع ومكابدات وأوبئة الكائن ،ما يفيض بل ويزيد على الحاجة التي قد يتصيّدها ويغريه التقاطها، متلقّ متلهّف للسرد الذي تبصمه نيوكلاسيكية منبثقة عن العوالم الخفيضة لتصالحات الذات مع باقي العناصر المحيطة بها.

هامش:

(1)مقتطف من قصة ” بويضة عصية” ، صفحة31/32.

(2)مقتطف من قصة ” الموت لا يوجع سوى الأحياء”، صفحة59.

(3)مقتطف من قصة “دودة الورق” ،صفحة 125.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي

د.حسن بوعجب| المغرب             لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات