هل ترغبون حقآ فى معرفة ما حدث ، أنا أشك فى ذلك ، لا أعرف هل ستتحملون رؤية ما جري على الأرض ، بشوقكم يا رفاق …
فى الثالث عشر من نيسان عام 1975إستيقظت لبنان ذات نهار على محاولة فاشلة لإغتيال رئيس حزب الكتائب ذى الأغلبية المسيحية وكان إسمه بيار الجميل ولم يكن شيئآ أخر غير الإسم جميل فى هذا الصباح المشئوم كان الرجل يؤدي واجب إجتماعي فى إحدى كنائس عين الرمانة وأدي الحادث لإغتيال مرافقه جوزيف أبوعاصي ولاحقآ حدثت مواجهة بين أبناء عين الرمانة والبوسطة وأثناء عودة حافلة تقل فلسطينين عائدين إلى مخيم تل الزعتر ، هوجمت الحافلة وكانت مقتلة عظيمة مات فيها سبع وعشرون مقاتل من أصل ثلاثون … إنتهي الخبر العاجل نقلآ عن موقع حزب الأررز … وإليكم التفاصيل .. الكثير من التفاصيل ..
إنتحر لبُنان ..هل هذا كافٍ
بالطبع أنا أمارس هوايتي فى السخرية التى تنتابني مع كل كارثة إنسانية ، لا أعرف ما الذى يجعلني حينها أشعر بأني إنساني مفُرط فى إنسانيته ، وأخنلف كثيرآ مع بن خلدون الرحٌالة الأمزيغي الذى هو من إفريقيا ، نعم إفريقيا التى قال عنها إذا دخلت إفريقيا وافق أو نافق أو غادر البلاد ، لقد كتب فى مقدمته ” إذا رأيت الناس تُكثر الكلام المضحك وقت الكوارث فاعلم أن الفقر قد أقبع عليهم وهم قوم بهم غفلة وإستعباد ومهانة كمن يساق للموت وهو مخمور ” مع كل الإحترام للرجل وللكلمات إلا أني لم يقبع على أحد وليس بي غفلة ولم يستعبدني أحد وقد أسُاق إلى الموت وأنا مخمور برغبة ملحة داخلي …
إنتحر لُبنان .. غرق في وحٌل من الموت ، كان شعار المتقاتلين سنسفك الدم ، كان كل شيء فى لبُنان موت ، فى مقود السيارة فى مقبض الباب فى سلك الهاتف فى باقة الزهور فى الردهة فى النادي فى الكنيسة فى الجامع فى الحلم فى اليقظة وراء الشمس أو بمحاذة القمر ، موت …فى هذا الزمن كان للموت رائحة ، والجائحة تصٌدح بمناحات ، والمرء مجرد رقم ، فى أيام كتلك الأيام تسمع للحياة شبق ، النهارات قلقة واليالِ موحشة وعقارب الساعات سَامة ، والدقائق حذرة ، الرعشة غير قابلة للفهم ، القمر شاحب والشمس باردة . وقوقأة داعرة ، وشمس تداعب سرة الصغيرة على الشاطىء ، وأقدام تداعب موج البحر الحذر ، ولهفة إلى الحرية تدثرنى بجفنيها ، كل شىء فى بيروت حرٌ ، الشمس والقمر والهواء والعاهرات ، وصفير البلبل ، ونعيق الغربان والخرٌاب والفراشات المحترقة وحتى اللامرئيات الغير محسوسة تملء الفضاء حرية ، كل شىء فى بيروت حرٌ ، هنا الموتى يتركون عيونهم لسٌواهم ، كنت أرضع من حلَمة العتمة ، كان شعاع النهار يلقي ظله على الجدار ، حتى جاء المساء ، كانت ليلة شديدة الكتمان ، إلا من صوت المدافع ، صوت طلقات هنا وهناك ، هذا الصوت المعدنى الذى يعلن عن الموت ، كان القصف عنيف حتى أننى تشبثت بأصابع قدمى فى التربة ، كنسر تشبث بأظلافه فى الرمال ، بعد ساعة تقريباُ أصبحت أنا وفريدا بلا آذان أوعيون بلا أى صوت .. أتذكر ضحكها المستمر كان حذراُ غير أنه صافياُ قبل سنوات درست الطب فى جامعة براغ ، رأيت هناك نفايات الشيوعية والعفن الذى خلفته على الجدران ، كان كل شىء مسموم ، وجوه الأطفال والفلاحات والهواء والحليب ، والزهور ، على أى حال لقد جِئت من مصر لدراسة الطب ، ولم يرق لى هناك غير ( فريدا ) فتاة من تشيلى ، متوردة الوجنتين دافئة يتدفق بداخلهما الدم أرجوانيًا باهتاً ، شفتاها ترتعشان قليلآ عندما تتكلم ، لها شعر أسود حالك وكثيف متوغل فى جبهتها ، وحاجبها مصفوفين ومتمايلان ومتقابلان كعصفوران ، رائحتها دائماً كرائحة خميرة الخبز المخلوط بعطر الورد ، عندما إلتقت عيوننا ، ثرثرنا كثيراً من غير أن ينبث أحدنا ببنت شفاه ، بعد إنتهاء الدرس تقابلنا فى حديقة الجامعة ، أمسكت يدها من غير إستئذان ، وهى من جانبها لم تبدى أى مقاومة تذكر ، تواعدنا أن نلتقى فى أحد المطاعم لتناول وجبة الغداء وبعد أن فرغنا من الطعام شرب كلانا كأساً ضخماً من الجعة ، لا أتذكر كثيراً عن البدايات ، أقصد أن علاقتنا توطدت بشحنات من خارج الزمان ، شحنات منبعها الماضى ، كنا نتشابه حد التطابق ، نفس طريقة الثرثرة ، نفس الأفكار ، هذا التهور ” وهذا الصوت المعدنى وهذا اللمعان المنبعث من أفواه الجثث ، وهذا الصدأ المتراكم ، كلانا كان يرضع بهوس ” ، أتذكر اليوم التالى حيث كنا نتحدث عن مسرحيات شكسبير عندما حضرت إمرأة غجرية تبيع بعض القلائد المصنوعة من أصداف البحر ، كانت المراة تلبس قناعاَ من الجلد يشبه النقاب وترتدى قفازات من الجلد أيضاً ، مدت يدها إلى ( فريدا ) بإحدى الصدفات ، لكن فريدا لم تلتفت إليها ، غضبت الغجرية وقالت لفريدا ، ستموتين قريباَ ، كانت الكلمات صادمة وصادقة ومندفعة ومتهورة ، إنصرفت من أمامنا وقد أصابتنا إندهاشة غير قابلة للفهم ، كان صدى صوتها ، كأنه وقع بين جيلين ، ستموتين قريباَ …
هرولت خلفها ، وإستملتها بأن إشتريت منها بأكثر مما نحتاج من الصدفات وتوسلتها كى تعود معى إلى حيث تجلس فريدا .
كانت العتمة تعانق البحيرة وتداعب بلبل فرجها بينما النجم المحترق يرتعش ويرسل النور الألاق ، جلست الغجرية بمحاذاة فريدا وإنتزعت كفها الأيسر بقوة ، حملقت فيه للحظات من غير عدسة مكبرة ، كل ما فى الأمر أنها نثرت بعض البودرة على كف فريدا ، هذه البودرة التى تستخدم للصغار حتى لا يتسلخ جلدهم ..
كان الصمت ثقيل كالحجر والصمت صاخب كالبحيرة وفريدا مستسلمة كأنها إمرأة لا تعرف الغرق .. مرآة لا تعكس الصورة قفاز فى يد غير مأهولة للقتال …
بضع لحظات من الصمت وإرتج جسد الغجرية وهى تقول لفريدا بصوت مبحوح …
من الحماقة أن تفكرى فى الإنتحار فى وطن غير وطنك فى بلاد غريبة فالموت كما الحياة يحتاج إلى وطن ، لا تموتى فى براغ ، لا تنتحري فى بلد سيتكفل بقتلك ، شعرت لحظتها بإنقباضة فى نفسي كادت أن تقتلنى …
فريدا ، هل هذا إسمك يا بنيتى ؟
هزت فريدا رأسها بالإيجاب
لا تفكرى بالإنتحار لأنها رفاهية لا يملكها سوي الأغنياء من ذوى الوجوه القاسية من أولئك الذين يعيشون فى هذه السنين المتهالكة
أنتِ فقيرة جداً وتعيشين بهوية زائفة ، أنتِ فى عزلة جريحة وتعيشين الآم متطاولة ، لابد أن تعانى بصمت وعلى كل حال …
ستموتين قريباَ ، لقد بصرت ذاتك الراحلة ، هى من أخبرتنى
كانت قدماى على الأرض ثابته المظهر ، بيد أن الأعاصير كانت تضربها وكانت رأسى كضمادة على جرح متقيح ، كلما أغمضت عينى يحترق شىء بداخلى …
كل هذا وفريدا جاثمة فوق كرسيها بأشد ضروب الإنقباض غرقاً فى العزلة ، إنتظرتها أن تتكلم ولكنها لم تفعل ، ليس ثمة رد …
نعم ستموتين كما تموت الأشجار من دون أن يتنبه إلى موتها أحد ، ستموتين كما تموت سحب الدخان المنبعثة من إحتراق الأشجار بعد موتها ، ستموتين كما يموت الكروم تحت أقدام الناس كما يموت النبيذ داخل حلق أحدهم كما يموت الليمون والبرتقال والبارود ، ستموتين مثلما تموت الحلمات فى نهود الفتيات بإفريقيا حين تداعبها أصابع خشنة ..
إنصرفت الغجرية من دون أن أشعر بإنصرافها وقد تجمعت الساعات بداخلى ، ولكن صدى صوتها ظل يتردد على مسامعى
ستموتين قريباً من ذاتك الراحلة عبر السنين المتهالكة من العزلة الجريحة !
*قاص من مصر