خلف النافذة التى أعماها البخار وبعيون ثملة شاخصة تنظر إلى عابر سبيل ، يتأبط جريدته ويتلحف بمعطفه الذى طوى طرفه على رأسه كمظلة ، لقد كان الطقس طائشًا ، وزخات المطر تنقر الزجاج وتداعبه كأنها أصابع خشنة مليئة بالوسخ تداعب سرة مراهقة تربت بين الراهبات ، كانت ( مينادا ) ترتدى ثوبًا أرجوانياً عليه بعض الزهورالمنثورة كنمش يُزين وجه مريم المجدلية أربعينية تعيش فى أزقة براغ ( مينادا ) التى تخطت الرابعة والأربعون وبضع شهور وثمانية وعشرون يوماً ، سنواتها الفائته صدوع فى سقف غرفتها ، كل صدع منها يمثل حدث أو هروب أو نزوة عابرة ، هذا الصدع الطويل النافذ فى السقف وجوانب الجدران حدث يوم رحيل إبنها ( آسر ) لقد نفذ الخبر إلى قلبها كسهم محترق طائش ، لقد طلبت منه أن لا يزور بيروت فى هذه الأيام ، كانت أيام حرب ، والغرابيب كانت ترنق فى الفضاء وتعيد ترتيب ريشاتها تحت المطر الكثيف ، ولكنه زار بيروت وتغنى ببيروت ومات ببيروت أصابته رصاصة مع أنه لم يلوح بالبندقية ، فى خطابها الأخير له ، كررت على مسامعه مخاوفها من وجوده ببيروت لقد كانت الصور المحرمة تأتى من هناك وتحمل بين طياتها مأساة إنسانية ، حرب أهلية ، لا أحد يعرف على وجه الدقة أسبابها أو أطرافها أو موتاها أو أحياؤها ، حرب غامضة ، طائشة ، حكت له كل ذلك ، غير أن رده كان ” زمن السلم نفخ بطون الفئران تحت أكثر الموائد شحاً خلال أطول معارك الجوع لكى يأتوا لاحقاُ إلى كوابيسنا ” ، لقد سقاها آسر الخلٌ أوعيتاً ، لقد قطع بسكينه قشرة الضوء التى كانت تختبىء خلفه ، وتركها عارية فى دُكنة الليل الغائم كريشة فى خريف برائحة الشتاء ، أصبحت حجرة ذابلة وزهرة تقطر الدم بدلا من الرحيق ، جعل عالمها رمادياً ، هى على إستعداد للموت من أجل اللآشيء …سنوات الثورة والحب ، سنوات السٌلم والحرب ، أيام العجب والموت ..إنها أيام حافية هذه التى تحياها ( مينادا ) هلاوسها واقعية أكثر من الواقع وواقعها مليء بالهلاوس وقد تخطت نقطة التحمل ووصلت لنقطة اللاتحمل ، تلك النقطة الساحرة منطقة إنهيار جدران الطمأنينة ، ثلاث محاولات فاشلة للإنتحار وأضعافها فى العيش ، كانت تتمدد تحت ضوء الشمس كشريط حذاء هامد ، لا يقوى على شىء …
وضعت كومة الأوراق على الطاولة وبدأت تخمشها وتحك سن القلم بالأوراق كأنها تحلب منها الحليب المرٌ، الأن يا ( آسر ) تطضجع بجوار الموتى قدماً بقدم ورأساً جنب رأس ، أجفانك تحتضن الظل ، تداعب الفراشات قبل أن تحترق وتُبصر ضوء الشمس المتلألأ وهو يضاجع صخب البحيرة …
بعد دقائق من التحديق المتواصل بالأوراق أصابها الضجر ..مزقت الأوراق وأطاحت بالقلم ، لم يعد شىء يؤنس وحدتها ويبعث بداخلها بعض الطمأنينة ، هرولت إلى خزانة الملابس وفتحت ضلفتيها على وسعيهما وفضت ما بداخلها من ثياب وأوراق نثرتها على أرضية الغرفة وجلست فوقها كشمعة تحترق وسط كعكة حجرية ، أو بالأحرى كنملة فى حداد بدات تنبش بيديها فى كومة الأوراق وأخرجت دفتر يوميات ( آسر ) كان قد أحضرها أحد رفقائه من بيروت يوم أن جاءها بالخبر المشؤم لفت نظرها العنوان ” الألوان الهاربة تموت ” وبدأت تقرأ السطور.
*قاص من مصر