قراءة في قصيدته “لن أساعد الزلزال”
بعد مرور ربع قرن على وفاة الشاعر المغربي ” أحمد بركات”، الشاعر الفريد الذي خطفته المنية منا في التاسع من شتنبر 1994م، في سن مبكر لم يتجاوز أربع وثلاثين سنة، الشاعر الذي يمتلك رؤية للعالم، ويحمل رسالة للإنسانية يجدها المتلقي الحاذق مندسة بين سطور متنه الشعري الذي استطاع بفضله أن يخلد اسمه ضمن قائمة الشعراء الذين غادروا الحياة مبكرا دون سن الأربعين كطرفة ابن العبد، وأبي القاسم الشابي، وبدر شاكر السياب، وآرثر رامبو، وغارثيا لوركا، وغيرهم من الشعراء والمبدعين الذين بلغوا العالمية
رحل أحمد بركات جسدا، لكن روحه ظلت ترفرف بين عشاق الشعر المغربي، وخاصة منهم من افتُتِن بتجربته الشعرية الرائدة ضمن قصيدة النثر، حيث خلف ديوانين شعريين زان بهما رفوف الشعر المعاصر بالمكتبة المغربية أولهما ” أبدا لن أساعد الزلزال ” الذي نال بفضله جائزة اتحاد كتاب المغرب سنة 1990، والثاني” دفاتر الخسران”. وبعد عشرين سنة من وفاة الشاعر كرّمت وزارة الثقافة الشاعر، حيث أصدرت أعماله الكاملة التي ضمت ديوانيه وقصائد أخرى لم تنشر من قبل، كما قدم لهذه الأعمال شقيق الراحل الكاتب والصحفي عبد العالي بركات.
إن الفترة التاريخية التي عاش فيها الشاعر طفولته، وبداية شاببه، قبل أن تخطفه يد الموت، قد تميزت بتنامي الحس النضالي الثوري في عديد من بلدان العالم، ومنها المغرب، فكانت جرعات الثورة ضد التقليد والظلم والواقع المزري القائم مطمحا لا محيد عنه لدى كل الشباب الغيور على بلده، الحالم بالتغيير، المؤمن بإمكانية تحقيقه، حيث النضال كان مبدأ يتربى عليه النشء، وكانت تعبر عنه العامة والنخبة أيضا عبر كل الوسائل المتاحة من تنظيمات سياسية أو نقابية أو أدبية أو أقلام فردية وغيرها من القنوات .
ويعتبر أحمد بركات واحدا من الأقلام الشعرية اللامعة التي كان همها هو مقاومة الظلم والضياع الذي كان يطبع الواقع المغربي في كثير من المجالات، خاصة على مستوى الحريات التي قُمِعت واضطُهد المناضلون وسُجنوا من أجلها، وفي هذا السياق، فالكلمات كانت تشكل رصاصات قاتلة، ورسائل قوية ترعب كل من يدفع في الإبقاء على الوضع القائم لأن رياح التغيير والتنوير تجري عكس مصلحته وأحلامه الضيقة الانتهازية التي تكرس الظلم والفقر والتخلف وضياع الإنسان.
فالشاعر أحمد بركات في نظري شاعر الإنسانية والحب بامتياز، شاعر ينهض في شعره ثائرا ضد كل الممارسات التي تكون ضد هذه الرؤية الوجودية للإنسان والحياة، ولذلك فعنوان ديوانه الأول ” أبدا لن أساعدا الزلزال ” لم يكن عبثا أو ضربا من الصدفة، بل كان اختيارا مقصودا موفقا يعكس رؤيته الشعرية العميقة، ويحمل معنى الرفض المستمر المعبَّر عنه بأداة النفي ” لن”، وعن استمرارية هذا الرفض بـكلمة “أبدا” والفعل المضارع المنفي نفيا قاطعا ” أساعد” ، هكذا يعلن الشاعر تمرده ورفضه المطلق لــ” الزلزال”، وما الزلزال عند الشاعر ليس إلا رمزا طبيعيا، يرمز إلى الدمار والخراب والإفناء التام، وإلى تشرد الإنسان وضياعه، فنتائج الزلزال معروفة لدى المتلقي البسيط والمثقف على حد سواء، وهي نتائج مدمرة هالكة، كما أن الكلمة ذاتها” الزلزال” كلمة تشعل نار القلق في وجدان الإنسان، وتجعله يسبح في بحر من الحيرة والرهاب، ولذا اختارها الشاعر لأنها تعبر عن موقف شعري واضح يتقاسمه الشباب الذين جايلوا الشاعر جميعا وهو رفض الواقع المتردي القاهر المظلم.
والملاحظ في الباكورة الشعرية الأولى لأحمد بركات ” أبدا لن أساعد الزلزال” هو كون هذه المجموعة تتضمن قصيدة شعرية تحمل العنوان ذاته، ولهذا، وبعد إشارتنا إلى العمق الدلالي الذي تفرد به عنوان الديوان الأول للشاعر، سنحاول أن نقدم قراءة تحليلية نقدية لهذه القصيدة، وقد وقع اختيارنا عليها لسببين وجيهين يتمثل أولهما في كون عنوانها هو ذاته عنوان الديوان، ويُستشف من هذا المعطى أنها تشكل أسَّه وتكثِّف رؤية الشاعر، وموقفه من العالم والواقع بجلاء، أما السبب الثاني فيتجلى في كونها قصيدة لفتت انتباه المتلقي بشكل كبير، حيث نجد إشارات كثيرة إليها لدى القليل ممن تحدثوا عن الشاعر أو عن تجربته الشعرية التي تستحق فعلا اهتمام الأقلام النقدية بها.
افتتح الشاعر القصيدة معلنا حذره، وهو إخبار يدعو المتلقي الذي يعرف الواقع المغربي حق المعرفة إلى وجوب التيقظ والتنبه والاستعداد التام لكل شيء خلال مناهضة الواقع المؤلم الجاثي بثقله على رقاب الناس، يقول بركات:
- حذر، كأني أحمل في كفي الوردة التي توبخ العالم
- الأشياء الأكثر فداحة:
- قلب شاعر في حاجة قصوى إلى لغة
- والأسطح القليلة المتبقية من خراب البارحة
- حذر، أخطو كأني ذاهب على خط نزاع
- وكأن معي رسائل جنود
- وراية جديدة لمعسكر جديد
- بينما الثواني التي تأتي من الوراء تقصف العمر[1]
فالحذر المتكرر أكثر من مرة في النص الشعري لا يمكن أن نفهم منه إلا دلالة واحدة وهي صعوبة الحياة في ظل واقع مزر مليء بالعراقيل والأزمات السياسية والاجتماعية والأنساق الثقافية الجامدة، واقع جعل الشاعر – ومن خلاله جيلا بكامله – كمن يمشي حافيا في مسالك وعرة تملأها الأشواك، كي يوصل الوردة كل مكان ، باعتبارها تمثل رمزا طبيعيا يقابل رمز الزلزال في العنوان ، و يرمز إلى المحبة والحياة، وتوبيخا منه للعالم في بعديه الوطني والإنساني، والذي تظل فيه الذات الشاعرة دوما جزءا منه وفاعلا فيه، وهو توبيخ فرضه كل ما يصنعه الإنسان من معاني الكراهية والأذى والظلم. فالشاعر يحمل رسالة جميلة طاهرة مضمخة بالحب للعالم، ذلك الحب الذي يختزل معانيه الإنسانية السامية رمزا “الوردة والماء”، في مقابل هيمنة معجم الحرب والصراع بين البشر الذي يزيد العالم دمارا، ويعمق جرح الإنسان، ويستديم عذابه، ويعلن تيهه وضياعه ( حذر، فداحة، خراب، خط نزاع، جنود، راية، معسكر، تقصف، الرماد، الحروب، العطش).
إن الشاعر أحمد بركات يعبر عن رؤيا شعرية محورها هو الإنسان، يمكن إيجازها في كونه مثقفا ثائرا يسعى لتخليص العالم من العذاب والظلم والموت الذي يرفرف على أرجائه بفعل انتصار قوى الشر الكامنة في بواطن النفس الإنسانية في كثير من الأحيان عبر تاريخ البشرية، فالشاعر وإن كان يعلم أن الشر باق بقاء الإنسان على الأرض، وهذا يذكرنا بقول جبران خليل جبران في مطلع قصيدته ” المواكب”:
الخير في الناس مصنوعٌ إذا جُبروا / / والشرُّ في الناس لا يفنى وإِن قبروا
فهو يستمر في توبيخ العالم على ما يصدر من الناس من شرور ينأى بنفسه عن الوقوع فيها، وعن وضع يده في يد من يمثلها، ولذا فهو مصر على تطهير النفس البشرية من هذه الشرور التي تنزع بالإنسانية نحو الأسفل والبدائية والحيوانية، ومُلحّ على الانتصار للحب والخير لأنهما يمثلان في رؤياه السبيل الأوحد للإحياء والبناء والارتقاء الذي تضمره الكلمتان الدالتان على الطهارة والحياة” ماء ” و ” أمطار” عوض الهدم والدمار الذي يعبر عنه معجم الحرب كما مر بنا. يقول بركات:
- وأنا حذر، أخطو نحوكم وكأن السحب الأخيرة تحملني
- أمطارها الأخيرة
- ربما يكون الماء سؤالا حقيقيا
- وعلي أن أجيب بلهجة العطش[2]
وإذا كان الشاعر أحمد بركات يؤكد في أكثر من موضع على حذره الشديد، وهو يحمل في كفه الوردة التي توبخ العالم، لما يحوم به من مطبات يدركه تمام الإدراك انطلاقا من واقعه المعيش المر الذي حال دون أن يتم دراسته الجامعية، فهو يبشر بأرض جديدة تتكون، ومساحات جديدة من الأمل تخضر وتتلون، أمل في حياة أرقى وأنقى أمام الصغار، يقول:
- ربما حتى أصل إلى القرى المعلقة في شموس طفولتكم
- لكن، أين أخبئ هذه الأرض الجديدة التي تتكون في عين
- التلميذ [3]
وإن كان الشاعر يتنبأ بدنو أجله وذهابه مع الأشياء في إشارة إلى تشيء الإنسان المعاصر، ومعاناته من الاستخفاف بسبب طغيان المادة وهيمنة سلطتها عليه، فهو يستمر مرددا ومؤكدا عدم مساعدته الزلزال / الشرور الذي يحطم أحلام الإنسان في غد أجمل، ويقوض الحضارة في ثوان معدودة، حيث يقول:
- حذر، ألوح من بعيد
- لأعوام بعيدة
- وأعرف – بالبداهة – أنني عما قريب سأذهب مع الأشياء
- التي تبحث عن أسمائها فوق سماء أجمل ولن أساعد الزلزال[4]
هكذا، فرسالة المحبة التي تملأ قلب الشاعر، وتستحوذ على وجدانه، وتتدفق بها عاطفته على امتداد هذه القصيدة باعتبارها تشكل مركزا لفكر الشاعر ووعيه، وبؤرة تتمحور حولها دلالات المتن الشعر كله، وهي عاطفة جعلت من القصيدة نداء من أجل الإنسان المغربي خاصة، وفي الكون عامة، كما تكشف لنا أن بركات كان صوتا شعريا ثائرا رافضا كل أشكال الدمار والضياع التي عج بها العالم، والتي نجمت وتنجم لا محالة عن صراع البشر الذي لم يدرك بعد المعنى الأمثل للإنسانية، وما زال يختصر معناها في الأبعاد الضيقة الأنانية التي تكرس الحرب والعنف ومنطق القوة عوض المحبة والسلم والتسامح وقيم العيش المشترك. ولهذا فالشاعر طموح حد الهوس إلى تبليغ رسالة المحبة والصفاء والتلاقي، وفي هذا يقول:
- هناك امرأة تقترب من الخامسة مساء تنتظرني
- سأذهب عما قريب
- دون ان اعرف لماذا الآن أشبه الحب بكتاب التاريخ
- أحب
- أحيانا أتوزع قبائل تتناحر على بلاد وهمية
- أحيانا أضيع
- ولكني دائما أحمل في كفي الوردة التي توبخ العالم[5]
فرسالة المحبة والتقارب واستمرارية الحياة جسدها الشاعر في مطلع القصيدة برمز الوردة، أما في نهايتها فجلاها في رمز المرأة التي تنتظر مواعدته مساء، حيث يذكِّر أنه مهما شعر بالضياع سيواصل توبيخه للعالم ومخاطبته بمغزى رسالته خطابا شعريا عاشقا للحياة ونابضا بالوجود.
يبقى أحمد بركات واحدا من الشعراء الأوائل المجربين قصيدة النثر بالمغرب، فالشاعر عنده كما لدى الشاعر الفرنسي كلود روي الذي أثّر في بركات ، هو من يؤلمه القلب والأرض واللحظة ويهب نفسه ورأسه للآخرين[6]. وبناء على هذا المعنى الذي آمن به بعمق، فقد فضل أن يكون فارسا يعشق المغامرة والاجتهاد، ويناضل ضد التقليد والاتباع الراسخ في الذهن الإبداعي الجمعي، ولم تسعفه اللغة اليومية المباشرة في التعبير عمّا يختلج ذاته من أحلام ورؤى ومعاناة تدمي القلب، فاستنجد باللغة الشعرية التي وجد فيها القدرة على تفجير الكلمات ومعانقة المعاني الإنسانية الكونية التي يرغب في نحتها على جدران الذاكرة الشعرية المغربية، وهذا ما عبر عنه بقوله: الأشياء الأكثر فداحة قلب شاعر في حاجة قصوى إلى لغة. لذا لم تكن هذه اللغة إلا لغة الشعر التي تعتبر وحدها قادرة على ترجمة مكنونات النفس البشرية، وتصوير جمال الوجود.
1 أحمد بركات، أبد لن أساعد الزلزال، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 1991، ص.5
[2] المصدر نفسه، ص.6
[3] نفسه، ص.6
[4] نفسه، ص.7
[5] نفسه، ص.7 – 8
[6] ينطر، مخلص الصغير، شاعر الزلزال يعود: 20 عاما على رحيل أحمد بركات، مقال منشور بتاريخ: الأحد 2014/09/14 على الموقع الإلكتروني: https://alarab.co.uk ، تمت زيارته بتاريخ : 4 يناير 2020.