عندما يحاكي القصيد ملكوت الروح بين الذات والمكان
بعد ديوانيها “أحلام بلون الشفق” الذي صدر سنة 2017 و”أفول المواجع” الذي صدر سنة 2019، لشاعرة الأطلس خديجة بوعلي، صدر لها ديوان شعري جديد موسوم بـ ”سمفونية حنين” عن دار بصمة للكتاب سنة 2021 ديوان يحمل إبداعا مغايرا على مستوى البنية اللغوية و الصورة الشعرية و جمالية الطرح و هذا ليس بغريب على شاعرة كبيرة من حجم شاعرتنا خديجة بوعلي، فقد سبق لها أن أبدعت بأعمال شعرية عديدة، تشي بجلاء عن سعيها إلى قراءة الواقع والحياة بشاعرية متوهجة و ماتعة، لا تنهل فيها من المتداول الشعري؛ وإنما تسعى إلى التميز الشعري، وهو ما اتضح في تجربتها في هذا الديوان، كما قال الأديب و المفكر ميخائيل نعيمة ” الشاعر نبي وفيلسوف ومصور وموسيقي وكاهن، لأنه يرى بعينيه الروحية مالا يراه كل بشر. ومصور، لأنه يقدر أن يسكب ما يراه ويسمعه في قوالب جميلة من صور الكلام. وموسيقي، لأنه يسمع أصواتًا متوازية حيث لا نسمع نحن سوى هدير وجعجعة… فالحياة كلها عنده ليست سوى ترنيمة، محزنة أو مطربة يعبِّر عنها بعبارات موزونة، رنانة الوزن، تتناسب في الطبيعة “.
لقد استطاعت خديجة بوعلي من خلال منجزها هذا أن تجعلنا نلج عالمها الشعري و نرتشف الجمال اللغوي و المعرفي و التصويري، كيف لا و هي الأستاذة المتضلعة في اللغة العربية و ابنة الأطلس حيث يمتزج العبق الأمازيغي و العربي على السواء في حلة مغربية عربية مسلمة متكاملة، فجاءت كلماتها مدغمة بالمعرفة، حيث نجدها في الوصف لا تصف من باب الخيال المفرط و في الانزياح و التناص لا تبتعد عن المعرفة المتجلية بفلسفة الوجود و النزعة الدينية المستوحاة من القرآن الكريم، فكانت تلك اللوحات المنعشة المتخمة بالانسانية ووجعها و الحنين للجمال في أسمى صوره البلاغية وللأمل المعلق على أحلام لا متناهية، فيما و نحن نسبح عبر سمفونيتها هذه ندرك أن الصورة الشعرية لدى خديجة بوعلي تقوم على تقديم الفكرة من خلال الإيحاء و التركيز مع قوة الإيجاز بهدف التأثير، مازجة في باطنه بين الواقع و المحتمل مع تضخيم المحتمل على حساب الواقع بقصد التعبير و نقل هذا المحتمل بالكلمات في صور فنية مادام المنطق و الأفكار أعجز من أن يثبتا هذا الشيء المحسوس، كما في قصيدتها ” كسوف البسمات “
في كل الزوايا و الجوانب
أفل النبض
و انتصبت المواجع
اكتظت الآهات بين المرايا و الأصابع
خفت بريق الندى
على الزهور و الينابيع
إنه الجمال الروحي الذي تراه الشاعرة و تعشقه وتنقله إلينا مجسداً، كي نتلمسه بحواسنا وفق خيالنا و تأويلاتنا لنقف وقفة ترو بين الواقع والمتخيل، بحثا عن مرفإ أمان، تقول خديجة في إحدى حواراتها،” قصائدي عزف الروح ونسج على وتر النبض لم أكتب حرفاً بقلمي بل بوريدي وشرياني، قصائدي وليدة مخاض ناتج عن ما يترسب بالأعماق، من إحساسات تنتج عن تماس بيننا والمعيش، كثيرة هي الأمور التي ننشدها، ولا نجد لها مكاناً على الواقع في كثير من الأحيان، ننشد المحبة والسلام والعيش بأمن وأمان، هي خيبة نحسها كلما اصطدمنا بجدار الواقع الصلب” و هو ما عبرت عنه تلك اللوحة التشكيلية التي زينت خذ غلاف الديوان للفنان التشكيلي محمد العلامي، حيث امتزجت فيها ألوان تتفاوت بين الباردة و الساخنة، اللون الأزرق، لون الأمن والثقة بالنفس و السلام والهدوء، و اللون الأبيض دلالة على الأمل الجديد لملئ الفراغ الذي يعتري الشاعرة، مع لمسات باللون البرتقالي الذي يدل على العطاء وتخطى الأزمات، و أخرى بالأصفر كدلالة على نفاد الصبر والانتقاد، إلى جانب هيكل بشري منزوع للأعضاء وبدون ملامح كدليل على تقلبات النفس الإنسانية و تعبير من جهة أخرى عن القلق الوجودي الذي يساور الإنسان ويقلق حياته ويهز استقراره في هذه الحياة.
و اعتبارا لكون العنوان يمثل العتبة الأولى في فك خيوط أي ديوان، فإننا من خلال عنوان هذا الديوان نتلمّس بوضوح ذاك التلوين اللغوي المليء بالزخم التعبيري المُجسِد لعمق الأحاسيس و المشاعر الانسانية في لحظة التوجع و الألم و الحنين المنبعث من الذات الحالمة للشاعرة، ” سمفونية حنين ” هو أنين بصيغة نوتات عذبة، و صوت الشتات و التشظي، يختزل الخمسة و الخمسون قصيدة التي يتضمنها هذا الديوان، قصائد وإن اختلفت مضامينها إلّا أنّها تشكل مع بعضها البعض جسماً واحداً تتفرع منه أعضاء تتكامل بأداء العمل الشّعري، بعناوين محشوة بكمّ هائل من المشاعر والعواطف الرهيفة التي ستتغلغل في نفس المتلقي، ” عاشقتك أنا – صمام أمان – عويل الصخر – أحلم أنا – كسوف البسمات – آه منك يا ملاذي – مهلا يا خريف – اجترار العبث – من كوة الأمل – شذرات على وجه الريح – بين كفي الريح – حشرجات ضياع – دبيب الموت – الريح منكم براء … ” قصائد استطاعت الشاعرة من خلالها أن تجرّد الأشياء من خصائصها المعروفة وتحويلها الى كيانات شعورية حسية ملتهبة و مشبعة بوهج مخيالها الفياض و الإمساك بكل لحظة شعورية محولة إياها للحظة انبهار، مما يجعلنا نبصم على شاعريتها و شعريتها،التي تمكنت بواستطها بلوغ ذواتنا و تتثير ذاك الانفعال الذي قال عنه حازم القرطاجني في كتابه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء): ” يجب على من أراد جودة التصرف في المعاني وحسن المذهب في اجتلابها والحذق بتأليف بعضها الى بعض ان يعرف ان للشعراء اغراضاً هي الباعثة على قول الشعر، وهي أمور تحدُث عنها تأثيرات وانفعالات للنفوس ” فالشعر بلا حس ولا عاطفة ولا انفعال ليس شعراً بل نظما بارداً لا يمكن بأي حال ان يدخل في ملكوت الشعر لأن من اول أساسيات الشعر ان يحرك إحساس المتلقي ويثير انفعاله وعواطفه ويهزه من اعماقه، كما في قصيدتها ” عنك أسأل ” التي نلمس من خلال مفرداتها أنها لا تحكي عن معاني , وإنّما تحكي عن ثقل شعوري وعاطفي وإحساسي رهيف حيث تقول:
أجبني إذ سألتك من أنت؟
أنت ملاك بجناحيه
يرفرف في الصبح و المساء
أم أنت شبح يترصد الظل في الخفاء؟
أنت نور يشع يضيء البيادر و البيداء
أم أنت شمعة توقد في الأحلام اللهب
أنت بيرق أمان.. يتعالى في السماء
و بما أن المكان مازال وثيق الصلة بالشعر والشعراء منذ العهد العربي القديم إلى العصر الحديث، كونه يشكل بالنسبة للشاعر عاملًا اساسيا لتحريك شاعريته، فقد كان ذلك واضحا لدى الشاعرة خديجة بوعلي و هي تستهل به ديوانها بقصيدة ” عاشقتك انا ” و هي تذرف حروفها الباسقة على موطنها مدينة خنيفرة هذا المكان الذي يظل لصيقا بها مهما غابت عنه، أو أصابه التغيير، المدينة التي تختزنها في ذاكرتها، وتتغنى بها، باعتبارها أهم العناصر التي تشكل كيانها، حيث نجدها تصفها بالروح التي تدب فيها و بعقد الزمرد الذي يطوق جيد جبالها الشامخة:
عاشقتك أنا
كل الأماكن فيك
تفوح حبا و شوقا
خنيفرتي..
يا عشقي الأبدي
أنامل فجرك من حنان
تكفكف آهات غيابات شتى
إنه الاتحام المطلق و هي تحاكي ملكوتها الروحي بين الذات والمكان، الذي عرى عن الحالات النفسية للشاعرة، التي ولدت الشوق ، والإحساس بالألم، و بالشدو و الدفء والحنين حينا آخر.
و بتحليل مختصر لقصائد الديوان نلامس أنه اعتمد على أسلوب بلاغي رفيع المستوى حيث طغى فيه استخدام محسنات البديع والبيان من تشبيهات واستعارات وانزياحات وجناس وطباق وسجع ومقابلة وتضاد وغيرها،فمن باب الانزياحات نسجل اعتمادها على ما هو قرأني ” أعجاز نخل خاوية ” ص: 50، ” عصفا مأكولا” ص:65، مع استخدام مكثف لألفاظ من الطبيعة وتطويعها لخدمة الفكرة التي تريد من قبيل الشمس، الريح، الصخر، البحر، العباب، النوارس، النخل .. وظاهرة الخسوف وغيرها. و استخدام أسلوب التكرار لبعض المفردات للتأكيد غالبا ومثال ذلك، الحنان، الروح ، الصمت، العتمة، الانكسارات، العشق.. مفردات كلها تدخل مكونا لسمفونية الحنين، و معجما انهالت منه كل النصوص، التي ارتكزت في مجملها على حقل الحب و الألم وفق جمالية ذات دلالات رومانسية و نغمة حالمة،
هي إذن إشارات إلى شعرية الذات الموجعة و التواقة للحنين و المحاصرة بين الذات و ما حولها، عبرت عنه الشاعرة خديجة بوعلي بلغة هادئة و بليغة، بسمة شعرية خاصة، وأبنية منحت النصوص تنويعا يستحق قراءات أعمق لكشف ما لم تقله قراءتنا هذه.