- المفاهيم الرئيسة للمقال: الترجمة – الأدب – الأدب المقارن.
يستعمل في اللغة الألمانية مصطلح الأدب المقارن بصيغة اسم الفاعل في حين إن اللغتين الفرنسية، والإيطالية، تستعملان عبارة ‘الأدب المقارن la littérature comparée’ بصيغة اسم المفعول، بينما تفضل إنجلترا وأمريكا استعمال صيغة حيادية هي المقارنة الأدبية.
الأدب المقارن هو علم الانتقال من بلد إلى آخر، ومن لغة إلى أخرى، ومن شكل تعبيري إلى آخر، وهو فن منهجي يبحث عن علاقات التشابه، والقرابة، والتأثير، كما يسعى إلى المتباعدين لهذه النصوص في الزمان والمكان، ولكن شريطة الانتماء إلى لغات، وثقافات متعددة من أجل الوصول إلى وصف أكثر دقة، ومن أجل تذوق أفضل لها، وهو” مجال دراسي يهتم بموضوع المؤثرات الأدبية على أدب آخر، أو دراسة تأثره به، ويدرس كذلك هذا المجال تاريخ الآداب القومية، فيكمل إنتاجاتها وينسقها ويضم بعضها إلى بعض في إطار تاريخي عام”[1].
وهو أيضا “وصف تحليلي، ومقارنة منهجية تفاضلية، وتفسير مركب للظاهرة اللغوية الثقافية، من خلال التاريخ والنقد والفلسفة، وذلك من أجل فهم أفضل للأدب، بوصفه وظيفة تميز العقل البشري”[2].
يتدارس الأدب المقارن “مواطن تلاقي الآداب في لغاتها المختلفة، وصلاتها الكثيرة والمعقدة، في حاضرها أو ماضيها، وما لهذه الصلات التاريخية من تأثير أو تأثر”[3]، فسواء تعلقت مظاهر ذلك التأثير والتأثر بالأصول الفنية العامة لكل من لأجناس، والمذاهب الأدبية، أو اتصلت بطبيعة التيمات، والمواقف، وكذا الأشخاص التي تحاكى في الأدب، أو مسألة الصياغة الفنية، والأفكار الجزئية في العمل الأدبي، وهكذا دواليك.
بناء على هذا التعريف؛ يظهر لنا جليا أن مفهوم الأدب المقارن غير دقيق في مدلوله، لأنه هو منهج في الدراسة الأدبية، وليس أدبا إبداعيا، والصواب أن يقال في المصطلح ‘الدراسة المقارنة للأدب’، أو ‘التاريخ المقارن للآداب’، أو ‘تاريخ الآداب المقارن’، ولكنه اشتهر بهذا الاسم، بالرغم من أنه ناقص في مدلوله إلا أنه غلب على أي تسمية أخرى.
يكشف الأدب المقارن عن مصادر التيارات الفنية، والفكرية للأدب القومي، وضرورة التقاء هذا الأخير في عصور نهضاته بالآداب العالمية، وتعاونه معها في توجيه الوعي الإنساني، والقومي، ليس هذا فحسب، بل إنه يكشف عن جوانب تأثر الكتاب في الأدب القومي بالآداب العالمية.
إن القصد بدراسة الأدب المقارن الوصول إلى شرح الحقائق، وكيفية انتقالها من لغة إلى أخرى، وصلة توالد بعضها ببعض، ناهيك، عن الصفات العامة التي احتفظت بها حين انتقلت إلى أدب آخر، ثم الألوان الخاصة التي فقدتها أو كسبتها من جراء ذلك الانتقال، كما أخرجنا من حساب الأدب المقارن ما يعقد من مقارنات بين آداب ليست بينها صلة تاريخية، أيضا نود التنبيه إلى أنه “ليس من الأدب المقارن في شرح ما يساق من موازنات داخل الأدب القومي الواحد، سواء أكانت هناك صلات تاريخية بين النصوص أم لا”[4].
يتمثل موضوع الأدب المقارن في الدراسة الدولية، أو المتعددة اللغات لتاريخ الأدب، فهو يربط الاتجاهات الكبرى للفكر عبر الأجناس الأدبية، والطرائق،والتيمات، والأساطير المتداولة بين الأدباء، والتيارات، والمدارس المهيمنة، ويعمل على تتبع انتقال الأفكار والموضوعات من
يتمثل موضوع الأدب المقارن في الدراسة الدولية، أو المتعددة اللغات لتاريخ الأدب، فهو يربط الاتجاهات الكبرى للفكر عبر الأجناس الأدبية، والطرائق، والتيمات، والأساطير المتداولة بين الأدباء، والتيارات، والمدارس المهيمنة، ويعمل على تتبع انتقال الأفكار والموضوعات من أدب إلى آخر، بالإضافة إلى أنه يرصد حضور عمل أدبي ما، أو مؤلف معين، أو أدب بكامله، أو صورة بلد ما في أدب أجنبي.
إن الأدب المقارن فرع من فروع المعرفة، يتناول المقارنة بين أدبين أو أكثر، ينتمي كل منهما إلى أمة أو قومية غير الأمة، أو القومية التي ينتمي إليها الأدب الآخر، مع مراعاة اللغة التي ينتمي إليها أيضا.
وهذه المقارنة قد تكون بين عنصر واحد من عناصر أدب قومي، وذلك بُغية الوقوف على مناطق التشابه، والاختلاف بين الآداب، والتنقيب عن العوامل المسؤولة على ذلك.
تعود نشأة الأدب المقارن إلى أواسط القرن التاسع عشر، حيث انتشرت المقارنة في كل من أوربا، والولايات المتحدة الأمريكية كمنهج بحثي معرفي في كثير من العلوم، حيث شعر بعض المشتغلين في علوم اللغة، وما يتصل بها، بأن المقارنة أداة فعالة ومفيدة لحقولهم، فأنشأوا تبعا لذلك حقولا بمسميات جديدة، مثل علم اللغة المقارن، وعلم القانون المقارن، وعلم الأدبيات المقارن، وهلم جرا.
ولعل الاتجاه إلى المقارنة نفسه يعود إلى التراكم المعرفي، أو تكاثر المعلومات في الحقول، وتفردها مما جعل المختصين يسعون إلى لم الشتات من خلال تلك المقارنة، بغية توحيد تلك المعارف، والسيطرة على تشعباتها.
وترجع هذه النشأة بالضبط إلى “سنة 1827م، حيث بدأ الفرنسي آبل فيلمان (Abel villemain) يلقي محاضراته في السربون بباريس”[5]، وهذه المحاضرات كانت تدور حول علاقات الأدب الفرنسي بالآداب الأوربية الأخرى، تتناول مثلا التأثيرات المتبادلة بين الأدبين الفرنسي والإنجليزي، وأيضا الأثر الذي تركه الأدب الفرنسي حيال نظيره الإيطالي في القرن الثامن عشر. قال فان تييجم (V.Tiéghm):” وقد بلغ من فرط الذيوع وسعة الانتشار في أيامنا ما يجعل من المستحيل علينا أن ننزع عنه هذا الاسم، لنحل محله اسما آخر أدنى إلى الصواب “[6]، غير أن جهد فيلمان وأمبير(J.J.Ampère)”لم يأخذ بعده المؤسسي، أو الأكاديمي إلا في الثلث الأخير من القرن، حيث أنشئت كراسي للأدب المقارن في الجامعات الأمريكية، ثم في الجامعات الفرنسية والنيوزلندية”[7]، ففي عام 1900 حدد الفرنسي فرناندير برونتيير(F.Brounitier) أهداف المقارنة على النحو التالي “سيؤدي تاريخ الأدب المقارن إلى زيادة الوعي لدى كل منا، فرنسيين، وانجليز، وألمان بالخصائص المميزة لكتابنا الكبار، إننا نحقق أنفسنا بالتعارض، ونتحدد بمقارنة أنفسنا بالآخرين، إننا لا نعرف أنفسنا عندما لا نعرف إلا أنفسنا “[8].
وبالرغم من أن الفضل كله يرجع إلى فيلمان في استعمال مصطلح الأدب المقارن لأول مرة، إلا أنه لا يمكن الإنكار بأنه كانت محاولات للمقارنة بين الآداب الأوربية، ودراسة العلاقات المتبادلة فيما بينها.
وقد شهد القرن الثامن عشر مجموعة من المحاولات نذكر منها:
– اتساع الأفق الأدبي لدى الباحثين نتيجة ازدياد الصلات الثقافية بين الشعوب الأوربية، وتعرف الشعوب فيما بينها عن طريق الترجمات، ثم إحساس فرنسا بتأثير كل من الأدبين الإنجليزي، والألماني بعد أن كانت متأثرة بالأدبين الإيطالي، والإسباني.
– ظهور اتجاه قوي متجاوز لحدود الأمم، ولنزعات التفرد، والانعزالية، مؤمنا بأن الآداب الأوربية هي حصيلة تفاعلات مشتركة عميقة، وأن الإبداع تجربة مشتركة غير مقصورة على أدب دون آخر، وهكذا تخليه عن فكرة تفوق أدب ما على الآداب الأخرى.
– تطور الاتجاه الرومانسي، وإلمامه بالتجربة الإنسانية، ونتيجة استفادة العلماء من التطور العلمي خارج بلدانهم، نشأت فروع من المعرفة تعتمد على المقارنة مثل علم الحياة المقارن، وعلم التشريع المقارن، وعلم اللغة المقارن، الأمر الذي ألحق العدوى ببعض حقول الدراسة الأدبية، وظهر علم أدبي مقارن، ومن بين الذي ألح على ظهوره إدكار كينيه (Edgar (quinet الفرنسي الذي اقترحه لأول مرة.
ويبدو أن المقارنة أمر حديث، فلئن عرف الأقدمون ضروب الموازنة بين كتاب الإغريق، واللاتين، وكانت القرون الوسطى مليئة بالاتصالات، والتأثيرات المتبادلة بين آداب الغرب المسيحي الناشئة. إن هذه الاتصالات لم تكن موضوع الدراسة في ذلك الوقت، وأن الآداب الحديثة إبان النهضة، والعصر الكلاسيكي قد أخذت عن الإغريق والرومان، فإن المؤرخين كانوا يقتصرون على ذكر الاقتباسات، فما تعدو المقارنة أن تكون اكتشافا لسرقات أدبية، أو تقريرا لأحكام تقويمية، وظل الأمر كما هو عليه حتى دخلت الآداب الأجنبية الحديثة إلى حلبة النقد.
وبعد أن تنبه الفرنسيون إلى قيمة التراث المشترك بينهم، وبين المناطق الأوربية، مما خلق الأساس الأول للتفكير في الأدب المقارن، والفضل في ذلك يعود إلى أن المناخ الثقافي كان مواتيا لممارسة البحث الأدبي المعمق، ولاسيما بعد أن تعاقب على فرنسا حكام اهتموا بأن تكون باريس مركز إشعاع ثقافي في القارة الأوربية بأكملها، غير أن هذه النظرة إلى المقارنة لم تكن هي السائدة، بل كان الهدف من توظيفها(المقارنة): هو لم الشتات والتوحيد. فالشاعر الألماني جوته (Goethe) الذي أشاع في الربع الأول من القرن 19 فكرة ‘الأدب العالمي’أشار بالأساس إلى ” تداخل الآداب العالمية خاصة الآداب الأوربية، في نوع من الانفتاح الثقافي الابداعي، ثم ما لبثت هذه الفكرة الهامة في تاريخ الأدب المقارن إلى أن انتشرت، وتكرست في مؤسسات البحث وبين الدارسين”[9]. فكان ممن عبر عنها من الفرنسيين بالدنسبرغر، وفان تييجم، وفرنسوا جوست (F.Gauste) وجان ماري كاريه (J.M. Carré).
ويعد كتاب مدام دوستايل (Destael) ‘ في ألمانيا ‘ الذي نشرته عام 1810م، البدرة الأولى لنشأة الأدب المقارن، والذي كان له صدى قويا في الرأي الفرنسي المثقف، لأنه مد حيزا فكريا، واجتماعيا بين بلدين أوربيين متجاورين، في الوقت الذي كانت العلاقة بينهما جد مضطربة. تقول المفكرة في هذا الصدد:”لا بد للأمم أن تتواصل فيما بينها وتهدي إحداها غيرها، ومن الخير للأمة أن ترحب بالأفكار التي ترد إليها من الخارج، فإن الأمة المضياف في هذا الخصوص هي التي تغنم أكبر الغنم”[10]، وقالت أيضا:”الفرنسيون أمهر الناس في ترتيب المعلومات، وطريقة التأليف، ولكن الكتب الأقل ترتيبا توحي بالمشاعر القوية، المسرحيات التي ترمي إلى قوة الإحساس واحتدام العواطف خير من تلك التي ترمي إلى دراسة الطبائع”[11].
نستشف للتو أنها لا تدع إلى تقليد المسرح الألماني، فالجدير عندها الاستنباط، والتلقيح لنفث روح جديدة في المسرح الفرنسي.
وصحيح أن كتاب دوستايل كشف لفرنسا عن الأدب الألماني كشفا رائعا، لكنه لم يدرس الروابط التي تصل بين الأدبين، وكذا تأثير كل منهما في الآخر.
ومن الواضح أن التربة أصبحت أكثر خصوبة ليظهر جان جاك أمبير سنة 1930، وإلقائه محاضرات في مرسيليا، وباريس عن الأدب الفرنسي، وعلاقاته بالآداب الاجتماعية. وبعده بقليل، أكد فيلاريت شال (V. shal) على متانة العلاقة بين الدول الأوربية، ليتأسس منبر ليون سنة 1890م، وتولى تيكست ( Texte) رئاسته، فبحث معمقا، ووسمهاب’دراسات الأدب الأوربي’، وكان جد متحيز لهذه الدراسة التي كان لها الدور الفعال في نمو الأدب المقارن، إلا أن الموت استعجله وهو في ريعان شبابه، يقول عنه محمد غنيمي هلال” واكتمل بحق معي الأدب المقارن على يد الباحث الفرنسي تيكست، وهو يعد بحق أب للأدب المقارن الحديث، وتمتاز دراسته بالأفق الواسع، والنظرة الشاملة في بيان تطور الأفكار واختلافها على حساب تطور الشعوب، واختلاف أحوالها الاجتماعية”[12].
وظهرت أولى فهرسة لمصادر الأدب المقارن على يد بتز (Petz) الفرنسي الذي وافته المنية عام 1904، وفي السنة نفسها انعقد في باريس مؤتمر عالمي دعا إلى دراسة التراث الشعبي، والأساطير، والخرافات جنبا إلى جنب مع الأدب، كما أكد على ضرورة المقارنة بين مختلف الآداب الأوربية.
وهكذا؛ فقد كان لفرنسا قصب السبق في إنشاء هذا الاتجاه الجديد في الدراسة الأدبية، لتليها بعض الدول الأوربية الأخرى التي سجلت بعض الإسهام فيه، كبريطانيا التي نشرت أول كتاب ما بين عامي 1837م و1839م لهنري هلام (H. hallam) تحت عنوان ‘ مقدمة لدراسة الأدب الأوربي في القرن الخامس عشر، والقرن السادس عشر، والقرن السابع عشر’.
وابتداءً من عام 1825م، اتسع التاريخ الأدبي في فرنسا اتساعا محسوسا، فإن الشبيبة من الأدباء، والنقاد أخذوا يتطلعون إلى أفق واسع، وأخذ حسهم التاريخي يدق، ويرهف بتأثر عدة عوامل تاريخية، كالرومانطقية التي غمرت الجيل بأكمله، ففي الوقت الذي كان فيكتور كوزان(V.Kozan) منهمكا في دراسة تاريخ الفلسفة، وأغسطين تيري يوحدون العلم التاريخي الفرنسي، كان فيلمان يدشن في السوربون تدشينا رائعا ألا وهو إلقاء محاضرات في أدب العصور الوسطى، والقرن الثامن عشر، كان موضوعها واضح المعالم، وكان هو موضوع محاضراته لعام 1829م. وبالرغم من هذه المحاضرات أنها كانت “دعائمه سريعة، متنقلة من ذروة إلى ذروة، فليس يعوزها الصحة وسلامة الذوق، ولا تستحق هذا الإهمال الذي قوبلت به، وهذا الازدراء الذي ثمنت به، إن فيلمان هو أول من رسم لنا التيارات الأدبية الرئيسية، وأشار إلى التأثيرات العالمية الكبرى.”[13].
وفي الوقت نفسه أخذ ‘شال’و’أمبيير’ و’كينيه’ يدرسون الأدب المقارن في محاضراتهم العامة، أو كتاباتهم المختلفة، وأخذوا يرحلون إلى البلاد الأجنبية، ويدرسون الآداب في أوطانها، فكانوا استمرارا لجهود مدام دوستايل، لكنهم لم يدرسوا الأدب المقارن الحقيقي، فكل ما في الأمر أنهم كتبوا مقالات جميلة، أو كتب قيمة في الآداب الأجنبية التي ولعوا بها ولعا شديدا، وتحمسوا لها حتى أنهم عدوا من المتعصبين إلى عالمية أدبية جديدة.
وفي الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، خرج الأدب المقارن، بشكل نهائي، إلى الوجود بفضل ثلة من الرواد ك: ‘جوته’و’بيرون’ (Piroun) و’وروسو'(Rausseau)… وإذا بنا أمام دراسات عن تأثير المبدعين الفرنسيين ومقارنة الأدب الإسباني بالأدب الفرنسي، والعلاقات الأدبية بين فرنسا وإيطاليا، أو بين فرنسا وانجلترا، كل ذلك كان بين عام 1840م و1860م، فأول كتاب كتب عن شكسبير( chekespeare.W )، والمسرح الفرنسي يرجع في حقيقة الأمر إلى عام 1855م، وهكذا بدأت الأطروحات الفرنسية لنيل شهادة الدكتوراه في موضوعات الأدب المقارن.
وعليه؛ إن الأدب المقارن علم استطاع أن يطفو على السطح، متخطيا مجموعة من العقبات، والمثبطات، واستطاع كذلك أن يتحول من مجرد أفكار تجول بخلد المبدعين إلى منهج ذو أسس وقواعد، مبينا أهميته في دراسة الآداب المختلفة.
ومنذ وعينا على هذه الدنيا، وجدنا أمامنا روائع الأدب العالمي مترجمة إلى اللغة العربية، بدءا من شكسبير، ودانتي (Dante.A)، مرورا بآداب القرون الوسطى الأوربية، وانتهاء بترجمات روائع الأدب الروسي، والأدب الفرنسي، والأدبين الإنجليزي، والأمريكي. ولهذا لا نبالغ إذا قلنا أن الترجمة شكلت بصورة مباشرة أو غير مباشرة جزءا من شخصيتنا، وثقافتنا، إلى حد أنه لا يمكن تخيل الثقافة الحديثة دون هذا الوسيط المثمر بين اللغات والثقافات، ألا وهو الترجمة.
هذه الأخيرة، تدعو إلى وحدة الفكر الإنساني التي لا يمكن أن نتصور العيش على هامشها، لأن العزلة تعني الموت، كما أنها تجعلنا أكثر قبولا للآخر المختلف عنا، فهي التعبير اللغوي والأدبي عن تباعد بين ثقافتين، وعن اختلاف لابد من اعتراف به، وقبوله قبولا صريحا.
فهي تعني نقل نص من ثقافة إلى ثقافة أخرى، ومن منظومة أدبية إلى منظومة أخرى، إنها إدخال نص في سياق آخر، ولهذا فمن الضروري ربط الأبحاث التي تتناولها بالأبحاث التي تدرس التلقي، أي دمج دراسة النصوص المترجمة بتفسير فعل القراءة.
وصحيح أن النص المترجم يحاول دائما الذوبان في الناتج الأدبي، وفي الثقافة المستقبلة، إلا أنه يحتفظ ببعض السمات الأجنبية، وسيبقى دائما مستوردا، أو قطعة دخيلة ضمن المنظومة الأدبية التي تستقبل، بالرغم من محاولة دمجه بالأدب المستقبل، والدليل أن عددا من الأجناس الأدبية لم تكن موجودة بصورتها الحالية في الموروث العربي، وقد احتلت مكانة هامة داخل المنظومة الفكرية العربية كالقصة، والرواية، والمسرح، بالإضافة إلى التغييرات الطارئة على الشعر العربي القديم نفسه.
بالإضافة إلى أنها تسهم بشكل مباشر في التعرف على المؤثرات الأجنبية، والتيارات الأدبية، لذلك تعد عملية كتابة التاريخ الأدبي عملية إعادة كتابته. من هنا؛ يتبادر إلى أذهاننا معضلة أمانة الترجمة أو خيانتها للنص الأصلي، فالخيانة في نظر اسكاربيت تتمثل في “أن جمهورا لاحقا قد يخطئ في فهم عمل ما، فيتيح له ضروبا من الانتعاش، أو البعث، تجعله يحقق فيما وراء الحدود الاجتماعية، والمكانية، والزمانية، صنوفا من النجاح البديل لدى مجموعة أخرى غير جمهور الأديب نفسه، فليس من الضروري أن الأديب قصد معنى آخر، أو لعله لم يفكر فيه على الإطلاق.”[14].
فهذه الظاهرة أطلق عليها اسكاربيت ‘الخيانة العظمى’، حيث من المستحيل تحاشي الخيانة الخلاقة أثناء الترجمة.
إن اسكاربيت قد زاوج بين مصطلحين بعيدين كل البعد عن بعضهما، فالأول (خيانة) لها بعد اجتماعي محض، والثاني (خلاقة) له علاقة بالإبداع، والخلق الأدبيين، لكن هناك من له رأي مختلف عما قاله اسكاربيت “ولم يكن من الخطأ انتشار عبارة Traduttoretraiditore أي مترجم يخون”[15]، فكيف يمكن الإيمان بمقولات القراءة المفتوحة، والإمكانات الهائلة للنصوص، وتعني الترجمة ‘تخون’ و’آلية’ و’ثانوية’ أو العبارة الأوربية الأكثر تداولا عن الترجمات، وهي ‘الجميلات الخائنات Les belles infidèle’ التي قامت لوري شامبرلين (Lori chambrlaine) بتحليلها وبينت أن الترجمة ” بوصفها كلمة مؤنثة، تثير التحري، وتسمح بتقبل الفرضية الذكورية المغلوطة التي تفيد أن الجميلة غير مخلصة “[16]. بأعمال انطلقن من عملية إسقاط العلاقات الزوجية على العمليات الترجمية. النص الأصلي باعتباره الزوج.
وعليه؛ فإما أن تكون دقيقة وقبيحة أو جميلة لكنها غير أمينة وخائنة.
إن أمانة الترجمة أو خيانتها هي دراسات تستشهد، والترجمة هي الزوجة، والمترجم هو العبد، وذهبت مذاهب شتى مستنبطة من حماسات اكتشافات ذهنية جديدة وتطلعات غريبة صارخة لم تتعرض بعدُ إلى تفحص موضوعي دقيق، فهي لا تدخل ضمن نسق فكري متأصل.
فهي عملية اختراع لغوي تؤدي في الغالب إلى إغناء النص الأصلي، بدلا من خيانته، والأمانة له (النص) ليست هي المقياس الوحيد الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في دراسات الترجمة.
بل يمكن القول؛ إن هذا لا يمثل إلا جزءا يسيرا مما نطلق عليه اسم الترجمة. “إن الأمانة ركن من أركان عملية تشمل دراسة الانزياح في النص المترجم، ودراسة الانزياح الحاصل في الثقافة المستقبلة.”[17].
ولعل تأثير الأدب الفرنسي في الأدب الأوربي، قد أسهم في خلخلة المنظومات الثقافية الأوربية عبر غزو المذاهب الأدبية، والنقدية المختلفة التي تأسس القسم الأكبر منها في فرنسا. ومن هنا نشأ الأدب المقارن، حيث اشتغل جيل من الرواد الفرنسيين على تأثير الأدب الفرنسي في الآداب الأوربية المختلفة، ولا ننسى ما سببته الروايات الروسية المترجمة إلى اللغات الأجنبية العالمية من تجديد في فهم الفن الروائي، لذا نقول من الصعوبة بما كان فصل الترجمة عن التلقي، وعن تاريخ التلقي.
“إن معرفة إلى أي حد تسود الأمانة للأصل، أو يسود النقل الحر تتوقف على الاتفاقات التي يتم قبولها في عصر المترجم، وكذا على وجهة النص أكثر مما نتوقف على الاختيار الحر الذي يضطلع به المترجم، أما في الوقت الراهن، فإن المترجم عندما يكون في حضرة بعض النصوص يلزم نفسه بالوفاء المطلق، والعمل التفسيري، وهذا ما يحصل مثلا، تجاه النصوص الكلاسيكية، أو النصوص التي لها مفعول كبعض المؤلفات السياسية في عصرنا.”[18].
وبما أن الترجمة تشكل الشكل الأهم من بين أشكال العلاقات الأدبية، فإنها تدخل في صلب الدراسات الأدبية المقارنة، وتشكل القسم الأعظم منها، لأن ذلك العلم (الأدب المقارن) يدرس الترجمة الأدبية “بوصفها علاقة تبادل مثمر تقوم بين أدبين قوميين أو أكثر، والنزعتين باعتبارهما وسطاء يمدون الجسور بين الآداب القومية المختلفة”[19].
والأدب المقارن لم يغفل الاهتمام بالمترجم، بوصفه وسيطا ثقافيا، وسيرته الثقافية، واختياراته، وعلاقاته بما يترجمه، بُغية تفسير قراراته الترجمية، سواء على صعيد اختيار النص، أم على صعيد تأويله، أم على صعيد تجسيده لغويا وأسلوبيا في اللغة الهدف.
إن ترجمات جوته، الذي يعد أحد أقطاب الأدب العالمي، سنجد أن الاهتمام بأعماله في البلدان العربية، والعالم نابع من تحول الفكر العالمي، فمسرحياته ومؤلفاته مارست تأثيرا كبيرا على القراء، وعلى الآداب العالمية المختلفة، إلا أن العدد الهائل من الترجمات لمؤلفاته كان لها تأثير على الإنسان العربي، يقول عبده عبود:” إن عددا كبيرا من المترجمين العرب قد ساهموا في نقل ما نقلوا إلى العربية من أعمال جوته فعددها لا يقل عن ثمانية عشر مترجما، وبطبيعة الحال، فإن لكل منهم تكوينه الثقافي ودوافعه، وطريقته في الترجمة، ولغته، وأسلوبه، ونتيجة لذلك وصل إلينا ما لا يقل عن ثمانية عشر جوته، بدلا من أن يكون لدينا جوته واحدا، وأصبح المتلقي العربي في حيرة من أمره يتساءل: أي من هؤلاء هو جوته الصحيح؟ “[20].
إن المترجم، وهو بصدد ترجمة عمل ما، عليه مراعاة المتلقي، لأنه يمارس هذه العملية ولا يمارسها على أنه ينقل نصا من لغة إلى لغة بل يكتب نصا جديدا، بهذا ينتقل من مترجم إلى كاتب، وهذا الأخير تربطه والقارئ علاقة تلازمية تؤدي إلى خلق، وإبداع فكري جديد.
عملت مقالة هيدي هارتمان(H.Harthman) المعنونة ب’ الزواج غير السعيد بين الماركسية والأنثوية’، على عرض سلسلة من المسائل من خارج استعمال مجاز ‘الزواج’ وكأن سؤالها هو: هل من الممكن رأب الصدع، أم أن الأوان قد آن للطلاق؟
إن إعادة تحديد العلاقة بين الأدب المقارن والترجمة، كفيل بأن يغير ميزان القوة هذا، وأن يحول دراسات الترجمة إلى شريك رئيسي، وأن ينهي سيطرة الأدب المقارن الذي يعتبر نفسه سيدها، ذلك أنه كافح بغية التعريف بذاته، مصرا على التمسك بقيم معينة، ورافضا الدعاوي من أجل تعريفات أوضح المدى والمنهجية. في حين إنها(الدراسات الترجمية)، شغلت نفسها بالنصوص وسياقاتها، بالتطبيق والنظرية، والتعاقبيات، والتزامنيات، هادفة إلى مرامي إيديولوجية.
تقول باسنت (S.Bassnet):”ومع تطور الدراسات الترجمية إلى نظام معرفي قائم بذاته بمنهجية مستندة إلى المقارنيات والتاريخ الثقافي، فقد آن الأوان لإعادة النظر، ومازالت الترجمة تشكل قوة تشكيل رئيسية في تطور الثقافة العالمية، ولا تستطيع أية دراسة في الأدب المقارن أن تنجز دون اكتراث بالترجمة.”[21].
وتضيف قائلة:”وقد كان للأدب يومه بوصفه نظاما، ولكن وجهة الدراسات الأدبية بوجه عام قد تغيرت بفضل العمل الثقافي المتداخل في حقل الدراسات الأنثوية، وفي نظرية ما بعد الكولونيالية، وفي الدراسات الثقافية، وعلينا أن ننظر إلى دراسات الترجمة بوصفها النظام الرئيسي من الآن فصاعدا، والأدب المقارن بوصفه منطقة لها قيمتها، ولكنها تابعة ورافدية”[22].
وعليه؛ لا يمكن فصل الترجمة عن الأدب المقارن، لأنهما عمليتان متلازمتان ومتكاملتان، فلولا جهود المترجمين الأوائل لما حقق الأدب المقارن مبتغاه.
وأخيرا لا يمكننا اعتبار المترجم خائنا، لأنه إذا خان فسوف يخون بلده وثقافته، لكن على العكس من ذلك، فهو يسهم بشكل أو بآخر في التبادل الثقافي، وإغنائه بين الأمم المختلفة على جميع المستويات.
الهوامش:
1- سعيد حجازي)سمير(، قاموس مصطلحات النقد الأدبي العربي المعاصر( عربي- إنجليزي – فرنسي)، دار الآفاق العربية، ط.1، 2001، صص:78.
2- علوش)سعيد( ، مدارس الأدب المقارن، المركز الثقافي العربي، ط. 1، 1986، ص: 12.
3- غنيمي هلال)محمد( ، الأدب المقارن، دار العودة، بيروت، ط.1، 1987، ص: 9
4- قسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن، محمد غنيمي هلال ناقدا ودارسا في دراسة الأدب المقارن، كلية دار العلوم جامعة القاهرة، ط.1، 1996، صص: 267- 268.
5- الخطيب)حسام( ، آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا، دار الفكر المعاصر، بيروت لبنان، ط.1، 1993، ص: 67.
6- علوش )سعيد(، مدارس الأدب المقارن، مرجع سابق، ص: 69.
7- الرويلي)ميجان( ، البازغي)سعد( ، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط.3، 2002، ص: 28.
8- المرجع نفسه، ص: 28.
9- المرجع نفسه، ص: 29.
10- الخطيب )حسام(، آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا، مرجع سابق، ص: 69.
11–غنيمي هلال )محمد(، الأدب المقارن، مرجع سابق، ص: 132.
12- الخطيب )حسام(، آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا، مرجع سابق، ص: 71.
13- علوش )سعيد(، مدارس الأدب المقارن، مرجع سابق، ص: 73.
14-فايستشاين)أولريش(، التأثير والتقليد، فصول، الأدب المقارن، ج.1، ع.3، أبريل/ ماي، 1983، ص: 21.
15-المرجع نفسه، ص: 21.
16- الخطيب (حسام)، الدراسات الترجمية: هل يمكن للترجمة أن تكون بديلة للأدب المقارن؟، علامات في النقد، النادي الأدبي الثقافي، جدة، المجلد 7، ذو القعدة 1418، مارس 1998، ص: 10.
17- السيد (غسان)، الترجمة الأدبية والأدب المقارن، علامات في النقد، ملتقى قراءة النص، النادي الأدبي الثقافي، جدة، المجلد 12، الجزء 48، ص: 128.
18-الجامعي الحبابي ( فاطمة) ، الترجمة والتلاقح الثقافي، بيت آل محمد عزيز الحبابي، تمارة، المغرب، 1998، ص:180.
19- السيد (غسان)، الترجمة الأدبية والأدب المقارن، مرجع سابق، ص: 128.
20- المرجع نفسه، ص: 133.
21-فيدوح(ياسمين)، إشكالية الترجمة في الأدب المقارن، صفحات للدراسات والنشر، القدس، ط.1، 2009، ص: 83.
22-الخطيب(حسام)، الدراسات الترجمية: هل يمكن للترجمة أن تكون بديلة للأدب المقارن؟، مرجع سابق، ص: 21.
* سعيدة مجعوط: طالبة باحثة بسلك الدكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز- فاس.