في معنى شعر الصَّعلكة النبيلة

إنه وفي غياب ثلّة من نجوم الكلام الموزون تحديدا ، ممن يمكن أن نغلو في التوصيف بشأنهم ،لنسمّيهم فرسان القصيدة العمودية، على سبيل المثال لا الحصر،حسّان بن ثابت، الخنساء ،المعري ،المتنبي،جرير ،الفرزدق،أبو تمّام ، أبو نواس،إلخ… قلت ،في غياب ذكر هؤلاء والتطرّق إلى سيرهم المأخوذة بطقوس أعراس القصيد ، لا طعم على الإطلاق للحديث عن تاريخ ازدهار الأدب العربي إبّان الحقبة الممتدّة جذورها ما بين قبيل فجر الإسلام و نهاية الحكم العباسي فتراميا على بدايات عصر الانحطاط . ما يهمّنا ها هنا ضمن هذه الورقة المقتضبة ، هو النبش في حياة أحد العمالقة من بينهم ،المشهود له بالفحولة الضلوع والباع الطويل، آنذاك والذي لم يزل صاحب بصمة موغلة في سجل الخلود وعصية على الزوال والانمحاء ما دام للكلمة كينونة و وجود. إنه الحسن بن هانئ الحكمي الدمشقي المكنى بأبي نؤاس ، في تضارب الآراء حوله ، والزج به داخل قفص اتهامات غير منصفة في معظمها طغت على ذاكرة تأويل حياته وشعره .

بيد أن ما نحاول الحرص عليه عبر تناولنا للظاهرة “النؤاسية “،يكمن في السعي الجاد إلى إثارة حسّ محايد و وعي متقد ينتصر للموروث ويكرّم الرموز بدرجة أولى كما يطالع منجزها من زاوية مغايرة تماما. احترازا ألا ننزلق أو نتعثر بمتاهات إثبات أو نفي المنسوب إلى شاعرنا مثلما تروي ذلك السجالات العديدة والحبر الغزير الذي سال بشأن صاحبنا هذا. لكننا ضمن هذه المعالجة سوف نلتمس أسباب التقعيد والتأصيل لثقافة شفافة ومحايدة تحتفي بالعنصر الفني بقد ما تخوض حفريات جمالية في أدب ” الصعاليك” مع كل ما تكتنزه التيمة من معان متسامية على القدح والتجريح ، وتتشبع به من دوال حاملة على النبل ومكامن البراءة في ذات متمرّدة تتغيا الثأر لإنسانية مهدورة و مستلبة . هكذا يقودنا هذا التصور إلى سؤال عريض جدا: ما المستفاد من التجربة “النؤاسية ” بوصفها ضربا من امتداد في الرؤى الوجودية للشاعر العربي الجاهلي “الشنفرى” وكل من هم من طينته و على شاكلته..؟

لعل ما يقرّب الأذهان من الملمح الضمني لغرضنا من تحرير هذه الورقة ،نموذجية هارون الرشيد كسياسي محنّك فطن كان أدرك كيف أن فاكهة مجالس الحكم والإمارة ، إنما تتجسد في حجم استقطاب أهل العلم والفكر والفلسفة والأدب، بغية خلق لمّة تتجاوز من حيث أهدافها ملذات الترف والسمر إلى قراءات غيبية واستشرافية موجهة لبوصلة الحكم و مفضية إلى ما يسدّ الثغرات و ينبّه إلى فخاخ الزمن و يحول دون الزلل واجتراح الأخطاء القاتلة.

ومن ثمّ يجوز لنا الانتقال إلى مستوى ثان يدشّنه عمق المعنى المرتبط بمفهوم ” التّكسّب والارتزاق” المشكك فيه والمطعون في بعده القيمي من لدن طائفة من المتفيقهين والسطحيين الذين لا يبصرون أنأى من أنوفهم. على اعتبار حمولة هذا المفهوم ، إنما تُفسّر على أنها مجرد نافذة إلى محاصرة الذات بأسئلة التفرغ لرسالة الإبداع والخلق والابتكار. بالتالي هي ظاهرة تضعنا إزاء الصورة المكتملة للخطاب الصوفي/ الفني المدغدغ لجوانب اللاوعي فينا ، يقوده تيار التمرد ، وتركب موجته كوكبة ” الصعاليك النبلاء” وفق ما قد يتيح خلخلة السائد و استنطاق الهامشي ومقاضاة الواقع السياسي ، منذ ما قبل “الشنفرى” و إلى يومنا هذا وما يليه من عهود تمكث روح الخطاب فيها واحدة موحّدة ، مهما تنوعت الواجهات حسب مقتضيات تراكم خصوصيات الأجيال المتعاقبة. *حين تلبس القصيدة عنفوانها مرّتين مما لا جدال فيه أن حنكة الرجل وتوهّج بصيرته ، إنما يعكسهما النضال المبكر من أجل تدارك الأسمى والأفضل ونيل الرمزية الخاصة واللائقة بين النبلاء وأهل الصفوة والعظماء من المُجايلين ، إن رياء أو تمرّدا على حياة قاسية مزرية ومنحطة أو ثأرا للإنسانية الرازحة تحت نير التعاليم البالية والقيود المتعارف عليها ، كضرب من نزعة واعية صوب المخوّل لبناء شخصية قوية وجديدة ،تتوغّل في مستقبلها تدريجيا،بعد أن تفلح ولو بشكل نسبي من التنصل والانسلاخ عن براثن الذاكرة المعطلة والمتهرئة. كذلك هو حبيب أوس بن الحارث الطائي المكنى بأبي تمام (180- 228 هـ \ 796 – 843 م) في حيز زمني اكتسحته العصامية القحة و التكريس للأيديولوجية في انحيازها للنمط المجتمعي الأرستقراطي المتقوقع على روح الملاحم وديباج لحظات الانتشاء بالنصر على الأعادي والظفر وحجم الغنائم جراء خوض المعارك والفتوحات. مفاهيميا، تمحورت نزعته الشعرية المتفرّدة ،عبر تصيّد المعاني المبتكرة المزدانة بغلاف عذريتها فضلا عن تأمم معجم ضاجّ بجماليات الأغراض الغرائبية و التشرّب من كلاسيكية مطبوعة بالمنطق ومراعاة سمات المناخ السياسي في كليته وعلى امتداد الخارطة العربية مثلما يرسم حدودها و يملي بنودها انتقال حضاري جيو/ سسيو ثقافي مغاير تماما بصم العصر العباسي إجمالا. كشاهد خالد على حقبة تاريخية لوثت صفحاتها الأكثر إشراقا، فلسفة السّياف والجلاد الغليظ والفض حتى مع ذاته ونسله إزاء ما قد يشكل تهديدا أو يمسّ ويطعن في قدسية الخلافة و يشوه كاريزما الزعامة والحكم. قطع الجهبذ أبو تمام أشواطا شائكة ودامية ،منطلقا من الشام منبته ،مرورا بمحطات كثيرة أفاد من مخزونها المعرفي والفني والأدبي،كمصر التي امتهن فيها السقاية تحت هاجس الكد وضرورة تحصيل لقمة العيش بنبيذ الجلد وعرق الجبين،فالجزيرة وأرمينيا وأذربيجان والعراق وخراسان . اشتهر الرجل بأسلوبه الطاعن بلذة المزاوجة بين الموضوعات البيانية والأدبيات المنتصرة لخطاب الحماسة . كما عاش طورا من التكسب قبل الالتحاق بالمعتصم ونيل الحظوة عنده،حسب المصادر الموثوق بها في هذا الباب والمُقارِبة لحياة وشعر صاحبنا ، بوصف القصيدة ذات مطلع:السيف أصدق إنباء من الكتب/في حدّه الحد بين الجدّ واللعب،و المذيلة بها طقوس عرس فتح عمّورية ، خير ما يدلّل على فحوى طرحنا هذا والذي اقتضبنا له هذه الورقة وأفردنا له هذه العجالة.

زد عليه مرامنا من العنونة ، والفائض عليها من حقول ضمنية إيحائية،تثبت إلى أي حدّ استطاعت القصيدة العربية العمودية ،ارتداء العنفوان مرتين إبان زمن التصالح مع عوالم الفلسفة والفن والأدب على الرغم من دموية لغة السياسة وقتذاك. مرة حين انتفضت العصامية القحة والموهبة الحقيقية لدى شاعرنا ليتم فيما بعد صقلها وتطويرها عبر الممارسة المستدامة وثراء التجارب والخبرات الحياتية،و ثانية لمّا أبان عن طاقات ذهنية خارقة من خلال كمّ القراءات الاستباقية لحركية المشهد السياسي القائم ، وإجادة قراءة أفكار الأمراء والخلفاء والقادة العظام.

* عنترة في هاجس الحرية معجزٌ حدّ الخيال ما تنسجه الأقدار،وليس كل العصر الجاهلي متاهات للتخبّط الروحي وانحسار للعقل في أدغال الغشاوة والغي والظلام. بل لتاريخ الجاهلية مروءة ــ ربما ــ نفتقر إلى نظيرها اليوم، في إنجاب شخصية أسطورية وعملاقة من طينة شاعر السيف والقلم،بامتياز، العبسي، عنترة،كاسم لأطياف لم تزل تثير الرعب في المخيلة، وتستعذب تجليات الفصاحة والقوة ،وتغازل الذاكرة ، وتذكي فتيل المفخرة والانتماء إلى التراث العربي المتجذّر في الوعي الإنساني إلى أجل غير مسمى ولا محدود. إن العلاقة غير الشرعية والمتغذية من نتانة الكواليس وسلطة التقاليد والتقيد بالأعراف القبلية،ولحظة النزوة العابرة ــ إن شئنا ــ والحميمية الحذرة التي أثمرت قدوم عنترة إلى الوجود، كمزيج لدم نبيل وثان متهم بالجذور الحبشية في شتى دوال المفهوم المحيلة على الدونية والعبودية والامتهان،أنا هاهنا من منبري هذا، أدحض وبأريحية افتراءات من يتأولون الظاهرة على أساس عرضي صرف ،من غزْل الصدفة وإملاءاتها ،لأجزم بأنه صناعة لأنامل سماوية علوية لا تدع مسافة للثغرة أو الخطأ أو الحظ. لكن العلاقة بين النوعين، سيمنحها شاعرنا لاحقا وبمعية بنت عمّه عبلة، صبغة القداسة والمثالية المنقوصة بسبب واقع العبودية المذكور،و ثقل الحمولة الوجودية بنبض هاجس الحرية واستحواذه الكبير. ولعل ما يهمنا أيضا،الجوانب الخارقة للعادي والطبيعي ونحن بصدد النبش في سيرة فارس الحب والحرب عنترة كشخصية حديدية تتباهى بعنصر القوة واستعراضاتها لفرض الذات وجني الاحترام ضمن مرام شمولي وغرض كامن يجسده منال الحرية والفكاك من الأسر الروحي بالأساس. سيتدرج بل سيختصر المسافات إلى نخاع النهج السياسي المهيمن آنذاك،ليغتدي الساعد الأيمن لزعيم عبس وقد أظهر حنكة نادرة في استثمار الطاقة الجسدية الهائلة التي يمتلكها هذا البطل ،لاستقواء لافت ونزعة توسعية إمبريالية كونها نهضت على سفك الدم بغير حق في كثير من الأحيان كما محفّزات الثأر والانتقام، تبعا لرؤى أنوية مقيتة مثلما تمليها زعامة تروم ضمّ العديد من القبائل تحت راية واحدة وتتشرّب إيديولوجية النظام الملكي كسابقة لم تعهدها العرب. يحقق صاحبنا جلّ مآربه وأهدافه التي خطط لها على امتداد عمر طافح بهاجس طلب الحرية، وداخل جغرافية يتناغم في رسم ملامحها حدّ السيف وجمالية الحرف ،لكن…تستعصي لحظة الظفر بعبلة من حيث إلحاح وضغوطات الاشتهاء والغواية الجسدية ليمكث الوصل عذريا للأبد. بيد أن المثير في القضية برمتها، نكهة اجترار سيناريو لا يتأتى لسوى صفوة ممن طالتهم دوخة البرزخ ودغدغة الخيط الرفيع الفاصل بين نعمة التوحيد و وثنية الجاهلية الأولى. ومن ثم ملمح البطولة والمشهد الإستطيقي في رصد طقوس نهاية ومصرع قامة تاريخية هلامية حوت معاني الفحولة في قران جهنميّ للسيف والكلمة. *بانوراما الزير يستفيض التاريخ في إخبارنا عن شخصية الزير الدموية المتلهّفة للثأر ،بينما يشحّ ويكاد يتّسم بالعقر فيما يتعلّق بتقديم الشافي والوافي عن الشاعر الفحل ،إلا ضمن محطات محدودة تحتسب هي الأخرى لفلسفة الانصياع والإذعان لوصية “كليب” الأخيرة بعبارة خطّت بدم مفادها لا تهادن ، وصاحبها يحتضر جراء طعنة غدر تلقّاها من قبل ابن عمّه “جسّاس”، لتتم تصفيته واغتياله بعدّه ملكا. بوسعنا تمثل سيناريو حياة العبث والخمر والنساء والتصعلك والمجون واللامبالاة بلا انقطاع ،لولا الصفعة القوية المتجسدة في مقتل وائل شقيق الزير.طارئ ومفاجئة موجعة جدا لم تكن في الحسبان،أربكت حسابات الزير كثيرا وسلمته للصدمة والدموع والتخنّث في طقوس الحداد والحسرة على رحيل بطل ما فتأت تتعاظم ذكراه وتتناسل أطيافه في ذهن هذا المتحول من شاعر عربيد ضال وبلا وجهة أو هدف،إلى وحش مرعب ومقدام و متعطّش للدماء،ومعتقد بقضية الانتقام كمعادل لوجوده هو ،حدّ التأليه. إن ما يعرف بحرب البسوس في اندلاعها لما يقارب نصف القرن من الزمن بين قبيلتين عربيتين عريقتين بينهما أواصر قرابة وعرى دم ،بكر و ثغلب. ظاهريا،بسبب ناقة، تأججت هذه القيامة التي شارفت على إبادة وانقراض نسل وسلالة بأكملها،لكن الضمني يشي بما يلزم أبو ليلي المهلهل بالمسؤولية كاملة،ويوجه أصابع الاتهام للزير كعاقّ وعبثي طالما تهرّب من مشاركة إخوته وسائر فرسان القبيلة تحت قيادة كليب،ومشاطرتهم هاجس التأسيس لمملكة كبرى تلغي الحدود القبلية وتتيح تكتلا و وحدة وقوة عظمى قادرة على مجابهة كل التحديات و التصدي لمعسكري الفرس والروم في نعرتهما التوسعية المعادية للمصالح العربية. يبدو أنها تدبيرات وترتيبات وتكتيكات غاية في الخطورة و الأهمية،غابت جدواها عن فطنة المهلهل ولم تخطر بباله المأخوذة ببريق الراح وغواية الغيد،أقله في حياة وائل. لتأتي مرحلة ما بعد اغتيال الملك ، كشاهد على بربرية الزير وشذوذه وشهوته المستعرة للفتك،وكأنه قاتل كليب الرمزي،بإهماله وتهكمه من الحياة والوجود، وهكذا انقلاب الآية،من سلبية وخواء وتسكع ،إلى قناعات مغايرة ومختلفة تماما كما مموهة أيضا من حيث خلع لبوس الإيجاب عليها، تاريخيا. بالتالي بصم تلك الحقبة من العصر الجاهلي في دنوها من الاندثار ،كونها أتت قبيل بزوغ الإسلام بقليل،و وسمها بأسطورة الزير الذي عاش ثأره الجهنمي لملك شقيق قتله هو من حيث لا يدري،ليفضل له ندما لا طائل منه ، تآكله من الداخل حتى آخر رمق،وقد أنصفه التاريخ كفارس باسل لا يهاب الموت،مسكونا بروح كليب، لا كشاعر أفنى عمره في خدمة قضية فرضها عليه ملك قضى في فجر أحلامه.

الصورة عن موقع الجزيرة نت

*بقلم احمد الشيخاوي|شاعر وناقد مغربي

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

سردية مساءلة ثغرات الهوية في رواية” ولادة قيصرية”

أحمد الشيخاوي| المغرب لعلّ ما يحاوله الروائي الجزائري الدكتور وليد خالدي، عبر جديده المعنون: ولادة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات