صدر عن دار ميزوبوتاميا في العراق المجموعة القصصية القصيرة جداً بعنوان : ” مدونات أرملة جندي مجهول” . . لكاتب القصة العراقي ( علي السباعي )، الطبعة الأولى 2014م. عندما يتحول الجندي الذي ضحى بدمه في سبيل الوطن إلى تمثال مجهول النسب، ينتصب وحيداً وسط ساحات خاوية، لا أحد يذكره إلا مرة واحدة في السنة، حينها سيشعر بالأسى لما حصل له، متسائلا كلما أشرقت الشمس، أين ذهبت كل تلك التضحيات؟ وهل سيندثر ذكره مع تقادم الأيام؟ إلا أن القاص( علي السباعي) أبى أن يترك هذا الجندي دون ذكر، مشرّعاً قلمه في السماء ليسرد في كتابه مجموعة من قصص قصيرة جداً، تلك القصص التي بقيت دفينة في قلب كل جندي قبل استشهاده، مستعيناً بأهله حينا، وبذكرياته حيناً آخر، فالمواطن البسيط أيضا جندي مجهول، محاولاً بث الحياة في أشيائه التي تركها الجندي خلفه، عسى أنه يردّ جزءاً من فضله للتاريخ .
يقع الكتاب في مئة وعشرين صفحة، من القطع المتوسط، وغلافها من تصميم الفنان التشكيلي محمود فهمي عبود، ويتكون الكتاب من أربعة ابواب، أسماها الكاتب بمدونات، وهي مدونة الحرب، مدونة الحصار، مدونة الحب، مدونة التيه، وكل مدونة تحوي عدداً من القصص التي تناسب الفكرة التي تدور عنها، مستخدماً لغة أدبية تميل إلى البوح الشعري، ملوّنا إياها بمسحة من اليأس والتشاؤم، من مدونة الحرب: ( عازف نسي عوده: كان معي جندي إبان حرب ثماني سنوات في جبهة القتال، لم يكن مقاتلاً شرساً، كان عازف عود موهوباً، مبدعاً، لا يجيد القتال أثناء المعارك الطاحنة وما أكثرها، وأثناء اشتداد القصف كان يعزف لنا، نحن إخوته المقاتلين أجمل الألحان، يضرب على عوده بلا تعب، بمتعة وإبداع أبداً لا يكرر نفسه. أعلن وقف إطلاق النار في 8/8/1988م، راح يدندن فرحاً بانتهائها، وإذا بقذيفة إيرانية تسقط على موضعه وهو يعزف، تقتله.. . )، صرخة يأس تخرج من حنجرة مواطن في مدونة الحصار، فيتعانق حزنه مع الحياة التي غدرت به، وهذا ما يعطي جمالية للنص، فيرسم لنا الكاتب بريشته كلمات معدودة حفرت في وجدانه، ووجدان كل مواطن عانى الحصار والفقر والقهر، فيقول في مدونة الحصار: ( إنسان: ذات حصار.. كنت أنظر إلى الحمار .. وأحسده. .) أما في مدونة الحب، فها هو القاص( علي السباعي )، يجعل من المشاعر ممرّاً إلى القصصه التي ما انفكّت تلازم المعاناة وتسير معها جنباً إلى جنب، فيجعل من النخلة التي زرعها الأب منذ أن كان شابا، تموت لحظة موت الأب بعد شيخوخته، ليكون الوفاء عنوانا لهذه الحالة، فيقول: ( كانت في باحة منزلنا نخلة وحيدة مثمرة، كأنها امرأة عراقية طويلة وزاهية زرعها والدي مذ كان فتيّاً، وتوضأ فوقها في أثناء غرسها، وكان دائماً يتوضأ بجانبها حتى كبرت، انكسرت نخلته من قامتها النامية وماتت في اليوم نفسه الذي مات فيه غارسها. ).
إن القضية التي ينشدها الكاتب في مجموعته القصصية هذه، هي ألا يُنسى هذا الجندي الذي يقارع طواحين الهواء وحيداً، أو يُترك يعاني من خيبة الوطن، فالخيبات المتكررة تجعل من المواطن العادي جندياً مجهولاً يستحق أن تُسجل لحظاته في سجل الأيام، وحسناً حين قال في إحدى قصصه: ( . . لأنك متى تأخرت عن الإمساك بتلك اللحظات المدهشة من محنتنا.. ستفقدها إلى الأبد. ).