لحظة فرار

حين يخضع المرء نفسه لعادة ما فمن الصعب أن يتخلص منها، ولست أبالغ إذا ما قلت أنني أخضعت نفسي منذ سين خلت إلى عادة، والحمد لله أنها ليست بالعادة السيئة؛ ألا وهي ولعي بقراءة الرواية. و أستطيع أن أقول، أن هذا التعلق بالرواية؛ ليس من حيث أنها جنس أدبي وحسب، بل إنها بالنسبة لي طريقة في فهم الحياة، أضف إلى ذلك أن الرواية تمنحني أكثر من حياة. 

في إحدى ليالي الشتاء الطويلة، وبعد أن كحل النعاس أجفان النيام، وألجم الصمت بجبروته حركة الكائنات، كنت هنالك داخل غرفتي مستلقيا على سريري؛ حيث كان من المفروض أن أكون أنا الآخر غارقا في سباتي، بيدا أن الأرق هذه الليلة بات إلى جانبي ومحا كل أثر للنعاس من على أجفاني. حاولت التخلص منه لكن كل محاولاتي باءت بالفشل، اجتاحتني مجموعة من أفكار؛ كان باستطاعتي طردها في لحظة واحدة لكنها تشبثت بي كدودة العلق، وغالبا ما يحدث معي نفس الشيء في الوقت الذي أكون فيه وحيدا، على هذا الأساس فكرت أنه من الخطأ أن يظل الإنسان وحيدا طيلة الوقت وسط حجرة موحشة وسكينة كئيبة. 

قمت من مقامي، أشعلت مصباح الأباجورة الخافت، وألقيت نظرة متفحصة على خزانة الكتب في محاولة مني لاختيار إحدى الروايات لأستأنس بها في وحدتي وأتجنب الإيقاع في شراك هذا السكون المخيف الذي يغمر المكان.

حقيقة تملكتني الحيرة وأنا أتنقل ببصري بين عناوين الروايات، غير أن هذه الحيرة لم تدم طويلا إذ وقعت عيناي أخيرا على رواية كانت قد أهدتني إياها صديقتي ميسون والتي سآتي على ذكرها فيما بعد، وكان ذلك خلال لقائي بها في الربيع الماضي. 

ودون مزيد من الحيرة والتفكير، تناولت الكتاب بخفة بين أناملي؛ ألقيت عليه لمحة سريعة من الداخل والخارج، ثم عدت أدراجي إلى السرير انزويت في أحد أركانه القريب من ضوء الأباجورة، وانكمشت بطريقة جانبية، متكئا على مرفقي ومسندا رأسي إلى راحة يدي متدثرا بلحاف صوفي للاحتماء من شدة القر، وضعت الكتاب إلى جانبي مفتوحا على أول صفحة، وبدأت ألتهم صفحاته الواحدة تلوى الأخرى منزلقا ببصري على عتبات السطور وبسرعة، ضنا مني أنني بهذا الفعل فعل الهروب إلى القراءة إنما أقتل الزمن كما هو شعوري دائما عندما ألجأ إلى القراءة، بينما كان الزمن هذه المرة هو من يقتلني ولكن على نار هادئة. 

كنت أقرأ في صمت دون أدنى حركة من شفتاي، وكنت كلما انتهيت من فقرة إلا وأقف عندها لأمحصها وأعيد قراءتها، لعلها تثير في ذهني التساؤلات، وأقف على مدى ارتباطها بما سبقها وبما سيليها .

كان ولعي بالرواية يشعرني أنني في حوار مع الكاتب، ومع شخصياته، وأكثر من هذا كنت أحس أنني في رحلة تواصل بيني وبين الكاتب وشخصياته.

في لحظة ما شعرت بتعب في عيناي، كان سببه التركيز على الكتابة التي طبعت بخط رقيق. توقفت عن القراءة ورفعت بصري إلى ساعة معلقة فوق باب الغرفة، كانت عقاربها تشير إلى الساعة الثالثة صباحا؛ أغلقت الكتاب مع طي جانب من الصفحة التي انتهيت عندها، رميت اللحاف جانبا ونهضت من على السرير متجها صوب النافدة، فتحت إحدى طرفيها مطلا برأسي خارجا، مسندا ذقني براحتي سارحا ببصري بعيدا شارد الذهن، كانت الأمطار في هذه الساعة تتهاطل بغزارة، وكان الشارع خاليا، كانت أصوات بعض القطط المقرورة وهي تموء تسمع هنا وهناك، كان صوت صفير الرياح يمر بجانبي، تمنيت لحظتها لو أنني أفهم ما تود  الرياح قوله لي، كانت قطرات المطر تنزلق على زجاج النوافذ الذي جعله ظلام الليل يبدو أسودا، والريح تعصف بالأشجار التي تحيط بالمنازل

مددت بصري على طول الشارع يمنة ويسرى كأنني أتحسس حركة شيء ما، أو أبحث عن شيء لا أدري ما هو، في هذه اللحظة تزاحمت في نفسي التأملات والأفكار والذكريات، نظرت حولي فلم أرى غير ذاتي المتألمة تقف إلى جانبي، حاولت الهرب من الحاضر البارد لأختبئ تحت عباءة الماضي الدافئ. كم هو مخلص هذا الماضي الذي يشدني إليه بحبال دقت أوتادها في الأعماق، رغم أنه يجعلني أرى المستقبل بعيون متشائمة، أدركت لحظتها أن مأساة المرء تزداد سوءا عندما يفكر في أفراح ماضيه .

كان الحزن قد شق طريقه في حلقي قبل أن يأخذ مكانا له في قلبي، وشعرت ببضع دمعات وهي تسيل من عيناي، فخشيت أن يسخر مني الليل والمطر والشجر، ومسحتها بسرعة لكنني عدت ولملمت همومي ووضعتها داخل الدموع لألفظها خارجا، فبكيت كثيرا لدرجة أن أنفاسي احتبست بسبب حرقة تلك الدموع.

بدلت قصارى جهدي أن أعثر على أبي في ذكرياتي، لعلني أتمسك بتلابيب ثوبه وأركع عند قدميه، واشكي له همومي وأحكي له عن الآلام التي أعانيها، لكم كنت أثوق إلى أن أشرح له شعور الوحدة التي أعانيها بسبب غيابه، ولكن الذاكرة خانتني حتى أصبح من الصعب علي البلوغ إلى الصفحات البعيدة من ذكريات الماضي المنسية والمتعبة، أغلقت زجاج النافدة ونظرت من حولي بقهر وعدت إلى سريري وأنا أجر أقدامي التي تحمل تعب السنين، في هذه الأثناء كان الليل قد بدأ يلملم أذياله مفسحا المجال للنهار، استلقيت على ظهري مغمضا عيناي مطلقا العنان لفكري كي يذهب بعيدا بعيدا عن هذا المكان، وشعرت بالنوم وهو يلامس أجفاني، فلم أرى من سبيل إلى مقاومته فغرقت في النوم ويدي على قلبي، ضنا مني أنني حريص على حياتي في نومي كما في يقظتي.

*22/12/2015

بقلم إدريس أبو رزق

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي

د.حسن بوعجب| المغرب             لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات