يعتبر إدوار الخراط واحدا من الروائيين المصريين، الذين أغنوا المشهد الروائي العربي بنصوص جيدة وممتعة، والتي اتخذت من التجريب منهجا لها في صوغ الحكاية والخطاب، وفي التعبير عن الرؤية للعالم التي تحملها الذات الكاتبة. كما أنه أنتج لنفسه أسلوبا جديدا في النحت اللغوي والحفر اللفظي، استطاع به أن ينتزع لكتاباته مكانا عظيما في نفوس القراء.
ونصوص الخراط كثيرة ومتنوعة نذكر منها: “راما والتنين” و”أبنية متطايرة” و”يقين العطش” و”أحجار بويللو”و”اختراقات الهوى والتهلكة” و”اسكندريتي” و”تباريح الوقائع والجنون” و”ترابها زعفران”، هذه الأخيرة التي سنحاول في هذه الورقةإن استجلاء مظاهر الجمالية فيها.
إن رواية “ترابها زعفران” تشكل في نظر العديد من النقاد أفضل ما كتبه الخراط، ولا عجب في ذلك لأنها تتميز بشاعريتها وجماليتها اللغوية وسحرية عوالمها.
قارئ رواية “ترابها زعفران”، سوف لن يجد فيها أحداثا كما عهدها في كل الروايات، ولا حكاية تنبسط أمامه بتسلسل، إنها رواية سوريالية ترصدمواقف كثيرة، وعواطف متداخلة، وأحاسيس أشخاص يتفاعلون باستمرار طوال النص الروائي. وهي ترصد جزءا من تاريخ الإسكندرية أواسط القرن العشرين، وتصور حياة المجتمع الإسكندري من خلال طفل يترعرع وينشأ في ذلك المجتمع، سيجد القارئ في هذا النص الممتع احداثا مكتوبة وكأنه يشاهدها صورا ولوحات مرسومة، لأن الوصف هو سيد الموقف وليس السرد. إنها “ليست سيرة ذاتية، ولا شيئا قريبا منها. ففيها من شطح الخيال، ومن صنعة الفن ما يشط بها كثيرا عن ذلك. فيها أوهام- أحداث، ورؤى – شخوص، ونويات من الوقائع هي أحلام، وسحابات من الذكريات التي كان ينبغي أن تقع ولكنها لم تحدث أبدا .”(صفحة 5).
تحتوي الرواية على تسعة فصول تحمل عناوين مثيرة أغلبها ذو نفحة رومانسية وهي على التوالي :
- السحاب الأبيض الجامح
- الموت على البحر
- فلك طاف على صوفان الجسد
- غربان سود في النور
- النوارس بيضاء الجناح
- السيف البرونزي الأخضر
- الظل تحت عناقيد العنب
- رفرفة الحمام المشتعل
وهنا لابد من إبداء ملاحظة هي أن كاتبنا إدوار الخراط له علاقة وطيدة بالرقم تسعة، لأن جل أعماله السردية تتضمن تسعة فصول.
هذه الفصول التسعة يؤطرها سارد مشارك في الحكاية، وهو بطلها وشخصيتها الرئيسة في ذات الآن، يحكي لمحات من سيرة صباه في فضاء الإسكندرية، هذه الأخيرة التي سنتعرف على أمكنتها العامة والخاصة، شوارعها وشواطئها التي آوت السارد في طفولته، أو مر بها، أو قضى بها اوقاتا ممتعة. يصورها بكل تفاصيلها، ولكنه لايعتمد ذلك التصوير الذي نعرفه في الرواية الكلاسيكية، الذي يأخذ حيزا كبيرا داخل الفضاء النصي للرواية، وليس ذلك الوصف الخاطف الذي تعتمده الرواية التجريبية، بل هو تصوير ووصف يجمع عن قصد بين ملامح الوصف الكلاسيكي، والوصف في الرواية التجريبية، دون إفراط في هذا ولاتفريط في ذاك.فلنستمع للسارد/الواصف وهو يقدم لنا وصفا للدار التي سكنها ذات يوم يقول “كنا نسكن في الدور الثالث من البيت، وأمامنا السطح الذي كانت امي تربي فيه البط والفراخ، وتربط خروف العيد، وكان للسطح سور قصير أشب برأسي فوقه لكي أطل على حديقة كثيفة مستطيلة الشكل، ضيقة، بين بيتنا وحائط البيت المجاور، وفيها نخل ترتفع شواشيه حتى تستند إلى الحائط العالي المقابل، وتحته زرع غامض وأصص ريحان وعنز متزاحمة، وكان للجنينة باب داخلي يفيح على الشقة التحتانية، وليس لها باب على الشارع” (صفحة9). أما عن المدرسة التي تعلم فيها فيقول عنها: “للمدرسة سور عال، من الحجر، على شارع الكروم، لا يفتح إلا على باب خشبي يفضي مباشرة إلى سلالم ضيقة، معتمة ونظيفة جدا، بين حائطين مضمتين”(ص56). أما عن وصف الشخوص فنجد على سبيل المثال وصفه لأحد الصبية: “أرى الولد، صغير الجسم، ساقاه رفيعتان في “الشورت” الأبيض الواسع وقميصه مفتوح. عيناه كأنما فيهما نظرة متأملة، مبكرة كثيرة عن سنه، وهو يقف في أول الصبح على حافة البحر الموحش، عند “المندرة”(ص37)، وفي مكان آخر يصف السارد/الواصف الذي هو بطل الرواية ومشارك فيها وهو “ميخائيل” يصف خاله “سوريال” قائلا: “وكان خالي سوريال نحيلا وقصير القامة نوعا ما، ولكنه قوي والعضل في ذراعيه مفتول جاف ومضلع”(ص145)
من خلال هذه اللوحات الوصفية وغيرها كثير، نستشف أن الوصف في رواية ترابها زعفران يتميز بالخصائص التالية :
- الدقة والتفصيل: حيث إن الواصف يولي اهتمامًا كبيرًا بالتفاصيل الدقيقة في وصفه للأشخاص والأماكن والأحداث. فنجد أنّه يصف بدقة ملامح الشخصيات، من حركاتها وتعبيرات وجهها إلى ملابسها وطريقة كلامها. كما يصف الأماكن بدقة، من معالمها الخارجية إلى تفاصيلها الداخلية، ونرى ذلك جليًا في وصفه لمنزل العائلة وشارعهم.
- 2- الوضوح والبساطة: على الرغم من دقة الوصف، إلا أنّ الخراط يستخدم لغة واضحة وبسيطة يفهمها جميع القراء. فهو لا يُكثر من استخدام المصطلحات المعقدة أو الاستعارات المُبهمة، بل يُفضّل استخدام لغة سلسة تُقرّب الصورة من القارئ وتجعله يشعر وكأنّه يعيش الأحداث بنفسه.
3- الإيحاء والتأثير: لا يكتفي الخراط بنقل الصورة فقط، بل يسعى أيضًا إلى التأثير على مشاعر القارئ وإثارة خياله. فنجد أنّه يستخدم الوصف لإثارة مشاعر الحنين إلى الماضي والوطن، كما يُثير مشاعر الحزن والفرح والأمل.
وهكذا يعتبر الوصف في رواية “ترابها زعفران” من أهمّ العناصر التي تُميّزها عن غيرها من الأعمال الأدبية. فمن خلال أسلوبه السردي المُتقن، يُبحر بنا الخراط في رحلة عبر الزمن والذاكرة، مستخدمًا الوصف كأداة أساسية لنقل صورة حية عن مدينة الإسكندرية في فترة طفولته.
أما عن التقنيات السردية التي تم توظيفها في هذا النص الروائي فقد وقفنا على :
1. الذاتية: يُستخدم الخراط في هذا النص تقنية السارد العليم الذاتي،حيث تهيمن على الحكي شخصية “ميخائيل” فهو السارد والبطل، مما يجعل النص يتماهى فيه الخطاب الروائي بالخطاب السيرذاتي.
2. الاسترجاع: يُكثر الخراط من استخدام تقنية الاسترجاع، حيث ينتقل السارد من الحاضر إلى الماضي من أجل استرجاع ذكريات طفولته في مدينة الإسكندرية. فنجد أنّه يروي لنا قصصًا عن عائلته وأصدقائه وأحداث مهمة مرت في حياته.
3. التداعي: تُستخدم تقنية التداعي في بعض الأحيان، حيث يربط الراوي بين الأحداث والأفكار بشكل عفوي دون اتباع تسلسل زمني محدد. فنجد أنّه قد ينتقل من الحديث عن حدث معين إلى الحديث عن حدث آخر مرتبط به بشكل ما.
كما أن رواية ترابها زعفران تتسم بعدد من الخصائص السردية والسمات الفنية، يمكن أن نذكر من بينها مايلي:
* الابتعاد عن السرد التقليدي.
* المزج بين الواقع والخيال الفني التركيبي.
* توظيف الأسطورة في الرواية.
* المزج في السرد بين ضمير الغائب وضمير المتكلم.
وصفوة القول، إن رواية “ترابها زعفران” من أروع النصوص السردية التي صدرت في نهاية القرن العشرين. والتي مارست تأثيرها السحري على القراء والنقاد.كما أنها من أهم الأعمال التي أبدعها الكاتب إدوار الخراط،وجعلها بمثابة صورة توثيقية لمدينة الإسكندرية بابعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
حسن لمين
- ترابها زعفران. الطبعة الأولى. دار الأحمدي للنشر. يناير 1999