شاعر يكتبه الغياب

*الشاعر المغربي عبد الله راجع.. مشروع مخيّلة وذات تتعدد

نحن بصدد تجربة محايدة جداً ومهمة نادرة لبست زمانها بالمقلوب في خضم فوضى أيديولوجية وثقافية عارمة، وقادتها طموحاتها الفياضة إلى علياء الشعرية والأسلوبية واللغة المتراصة الرصينة والهامسة المنقوعة في تضاريس اللانهائي واللامحدود.

وإلى عوالم من الرؤى المطرزة بطوباوية الصلة بالذوات والأزمنة والأمكنة، وترجيح عناصر الجمال وتغليبها على منظومة ما سواها من بقية الأغراض.

برغم التموقع والعسكرة في آفاق تتجاذبها منغّصات التعاطي مع الألوان العروضية وقيودها الثقيلة والمعطلة من حيث تمثلها القاصر للسيكولوجي والحياتي والكوني القاصر الذي قد يعوق روح مغامرة اقتناص المعنى الجديد، هذا من جهة، ومن جهة ثانية جنون استشراف كتابة جديدة متشبعة بحساسية مغايرة داخل مناخ سبعيني موغل في استحواذ الإيقاع على مفهوم القصيدة.

هو كذلك الرمز ــ مشارقياً ومغاربياًــ الشاعر الفحل عبد الله راجع الذي قطفته وعلى حين غرّة، يد الردى، مبكراً، مغتالة بذلك أحلام أمة في كليتها.

إرث الرجل باذخ يعتمد المزاوجة والقران بين الممارستين النقدية والشعرية بريشة استثنائي عاش وفياً للقاعدة الجماهيرية العريضة جداً مترنماً بأوجاعها وهمومها وانشغالاتها.

لم يحد عن سكة الالتزام بالنص الموزون، منجزه، والعزف على أوتار شعر التفعيلة آنذاك، طاعناً بلذة النهل مما هو صوفي محض مشرع النوافذ على الأدب الدخيل النابض بنزعته الإنسانية والمناوش بإغراءاته، وشراهة احتواء الواقعي والمعيش الرافل في عبير النفس الملحمي والمعتمد على الاستحضار الواعي للموروث الإنساني والتغني بالمعاناة التي هي من إفرازات الشعبي والهامشي دون أن يشوه ذلك نضارة المعجم وبشاشته وتوهجه حتى في ظل مشاهد البكائية والانهزامية.

هي ثلاثة دواوين شعرية، في حياته، وتوأمان لها (وردة المتاريس/ أصوات بلون الخطى) بعد بضعة عقود من ساعة وفاته، ورّث الراحل الذاكرة الإنسانية، إياها، كانت كفيلة بخلق زوبعة بين مجايليه ومن بعدهم، سجلها له التاريخ وكأن لسان حال الرجل لما يلهج بعد بعبارة من قبيل “لا قبول بتاتاً بقطعة مجد مزيفة”.

هكذا راح وبكل نضال وصمود، يرسم ملامح شخصية أسطورية وحروف اسم وازن عربياً وعالمياً، نقشها ثم فوق النجوم وفي الوعي والوجدان والذاكرة.

ففي باكورة أعماله “الهجرة إلى المدن السفلى” أبان شاعرنا وأماط اللثام عن نقلة نوعية البون وقلقلت ساحة الإبداع العربي المعاصر برمّته، وقلبت موازين المعادلة الأدبية، وإن في أحرج أوقات الإخلاص إلى شعر التفعيلة كما أسلفت والنفور من العروضية الكلاسيكية العاجزة عن المواكبة ومغازلة كل مستجد طارئ تمليه نظرة العالم السرمدية إلى الأمام.

وفي بصمته “سلاماً وليشربوا البحار” كأضمومة ثانية لم تزغ عن تبني المرجعية المطورة للمواقف والخطابات والرسائل وكذلك فنية النواة الأولى، أدهش شاعرنا جمهوره بتقنية باهرة جديدة صبغت شعريته عبر تأمم المسامات الكاليغرافية في نطاق إبداعات تراعي الإيقاع دائماً، فكان التكثيف من العناصر الصورية لافتاً ومهيمناً على نحو يدغدغ الذائقة ويعوضها على صدمة هجر النمط العروضي الذي أثار سجالاً ومقارعات قوية وقتئذٍ.

وفي ديوانه “أيادٍ كانت تسرق القمر” يستحوذ التوجه الوطني وتتسارع وتيرة المزج بين المكون البصري وتناسل المعاني المولّدة والجديدة في إطار الانجذاب إلى كل ما من شأنه انتشال قصيدة التفعيلة من طابعها التقليدي المألوف إلى مستويات تقديم الإضافة والجدة حدّ إرباك ذهنية التلقي.

القاتل/ المقتول، حسب الوارد في إحدى روائعه. القاتل بمعسول بوحه المكلل بالنرجسية الحميدة والواحدية المخصبة للهم الجمعي.

المقتول بالتنكر له والصدود عن منجزه الشعري والنثري الزاخر بشتى صنوف موجبات الفخر للبلاد والعباد، إذا أنصفنا النزر القليل الذي لم يبخس الرجل الراحل/ الخالد قدره ولم يزل مترنماً بذكراه، وقد مضى على أفوله ما يربو على ربع القرن.

أجل، السمو بالشعر إلى مرتبة الوهم، والكارثة تكون لما يتم إدراك حقيقة مرة كهذه متأخرة وبعد فوات الأوان.

ولعل هذا يحيل على فتح سؤال جوهري عريض، على غرار: لم لا تتساوى حظوظ السياسي والمثقف؟ مثلاً.

أم أن المثقف عموماً يكاد لا يتجاوز أعتاب وأدوار الشمعة التي قدرها أن تحترق لتنير دروب الآخرين؟

لذا أغتنمها فرصة من منبري المتواضع هذا، وأتوجه بدعوة حضارية جداً، للجهات المعنية التي يقع على عاتقها فك طلاسم أزمة المبدع والمثقف بشكل عام.

فالأوسمة والتكريمات والعناية والاهتمام وما إلى ذلك من المستحقات التي هي في عنق الدولة لمن يصنعون إرثها الفكري والفني والثقافي، أولى أن يحصدها المبدع والمبتكر وهو في أوج عافيته وعنفوان عمره، لا في شيخوخته أو بعد مماته. 

خلاصة القول أننا في حضرة الرمز الراحل عبد الله راجع شاعراً وناقداً، إنما نحن إزاء قامة برغم المأساة والهواجس واللامبالاة وأصابع الاتهام، فقد تأتَّى لها زرع بصمتها عميقاً في التراث الأدبي المغربي والعربي والعالمي.

والتأثير إيجاباً في الأجيال اللاحقة والتي من واجبنا تنويرها وفتح أعينها على نتاجات كوكبة من العظام الذين التحقوا بالرفيق الأعلى مخلفين ثروة معرفية وجمالية تجني ثمراتها الإنسانية جمعاء.كذلك هو الراحل عبد الله راجع، مشروع مخيلة وذات تتعدد في الزمان والمكان. كذلك هو الرمز الذي يكتبه الغياب.

بقلم أحمد الشيخاوي

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

التوأمة بين أصوات الأنوثة والانتماء

أحمد الشيخاوي طالما كانت لي العديد من الوقفات مع تجربة الشاعر المصري أحمد مصطفى سعيد، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات