أوطاط الحاج وضواحيها [ أنموذجا ]
لقد حظيت الفنون التعبيرية الشعبية باهتمام كبير ومتزايد من قبل الباحثين والدارسين في خمسينيات القرن الماضي ، خصوصا مع ظهور علم السيميائيات ” علم دراسة العلامات ” على يد المفكر والباحث الفرنسي رولان بارت ، وما أصبحت تلقاه هذه الفنون الشعبية من تحليلات باعتبارها علامات ودوالا ترمز إلى سلوكيات ثقافية وأنماط تواصلية ، تعبر عن آراء أصحابها وتطلعاتهم ورغباتهم المتزايدة لرصد حالات نفسية شعورية ،تعبر عن الإحساس بالجمال والحب والفرح والحزن والضيق والشدة…
ومن جهة أخرى تعد في مجملها مشاعر إنسانية لها صلة وطيدة بسلوكيات ثقافية واجتماعية ، تساهم بشكل أو بآخر في إجلاء إسهامات الأفراد والشعوب في بناء الحضارة الإنسانية في مجالي الثقافة والفن ، وبالتالي تقربنا من الوقوف على نوع هذه الأشكال الحضارية وروافدها المتعددة ، ومن ثم تمكن من دراسة أحوال مبدعيها والتعرف عن أنماط تفكيرهم وعقلياتهم …
وبهذا أصبح مفهوم الثقافة يتسع ليشمل المنطوق وغير المنطوق ، المكتوب وغير المكتوب ، غير المنطوق الموجود والحاضر بقوة في جسد ثقافتنا المغربية والعربية بصفة عامة ، وفي مختلف مظاهرها الحضارية : في المعمار والبناء ، في الرقص والغناء ، في الحكايات والأحاجي ، في الأغنيات الشعبية والأهازيج باعتبارها خطابات تلفظية ، وأنساقا لغوية ، ترتبط وبشكل قوي وقريب بالحياة الثقافية والاجتماعية للعديد من الأفراد والجماعات الذين أبدعوها ، أولئك الذين لم ينالوا حظهم من التعليم والتعلم ، لأسباب عدة ، لا يمكن بأي حال من الأحوال التخلي عن إبداعاتهم المختلفة والملونة بألوان من مظاهر الحياة الاجتماعية ، تطبعها مشاعرهم النبيلة ، وأحاسيسهم الصادقة في نظرتهم لذواتهم وللإنسان والكون من حولهم ، وتختزل في مجملها تحولات وتقلبات مجتمعية وثقافية ، برؤى واضحة وصادقة ، تلتقي في النهاية حول هدف مشترك ، هو أنها تعبر عن خلجات النفس البشرية ، وما يحيط بها من أحلام وآمال وأحزان وآلام وتطلعات: تعبر عن الفرح والحزن ، تعبر عن أذواق صقلتها العلاقات الاجتماعية ، والتجارب الإنسانية، تمتح من كتاب كبير واسع ومفتوح هو الطبيعة بمختلف تجلياتها وفصولها ، وبكل ما تعرف من أحداث كبرى ، فيها من الخير والحب والصدق والوفاء والإحساس بالجمال في شتى مواطنه … فيها من ألوان الحياة الاجتماعية من صور الغنى أو الفقر أو التمرد أو الهزائم والانكسارات … تحاكي النفس البشرية في مختلف أحوالها وأطوارها . فلنستمع إلى هذا المقطع الشعري الصغير من مثل هذه الأبيات الشعبة الجميلة :
[ عييت مبرداه ويقداهاد الهم مجاور الكبدة ].
إن هذا المقطع الشعري الشعبي ، على الرغم من قصره ، يحمل مجموعة من التعابير الدالة على حالة نفسية معينة ، تضج بالهم والحزن والمكابدة ، أمام أمر ثقل ، وقصم ظهر حامله ،لا يستطيع التخلص منه ونسيانه لأنه يجاور الكبد في السكنى ، والكبد من أقدس الأعضاء لدى الإنسان…
سنحاول من خلال هذا البحث الوقوف عند بعض الصور ، وبعض الأنساق في مثل هذه الفنون التعبيرية الشعبة الشفهية ، وخاصة في مجال الغناء أو التغني من خلال بعض الأغاني الشعبية المحلية من تراث كبير وواسع ضاعت أغلب قصائده أو أغانيه بموت أصحابها أو بموت ذاكرة واسعة من النساء أو الرجال الذين ظلوا عبر سنين عديدة يحفظون ويرددون بعضا من متون هذه الثقافة الشعبية الشفهية المحلية المتواجدة بمنطقة اوطاط الحاج والقرى والضواحي المجاورة لها .
ولعل من أهم الأسباب التي دفعت بنا إلى هذا البحث ، رغم شح المصادر ،وصعوبة وجود ذاكرة ملمّة بكل هذه الأنساق الشعبية الرائعة ..
1 ــ سرعة البديهة وتدفق العطاءات الفنية وغزارة الألوان الشعرية الزجلية ،بهذه المنطقة وضواحيها .
2 ــ صدق الأحاسيس وجمالية التعبير وتنوع الصور وارتباطها بواقع المبدع ومعاناته النفسية والاجتماعية .
3ــ رقي صورة المرأة والحفاظ على مكانتها ورمزيتها .
من تم استحقت مثل هذه القداسة ، أي المرأة ، في كل هذه الفنون ، فابتعد الشعراء الشعبيون في الوصف أو الغزل عن كل انحلال خلقي قد يخدش صورة المرأة ويقدح في منزلتها ويحط من قدرها بين أفراد القبيلة الواحدة أو بين القبائل المجاورة ، وذلك لسريان كلمات هذه الأغاني بين الأفراد والجماعات وانتقالها السريع من شخص إلى آخر ، كالنار في الهشيم ، الأمر الذي جعل مثل هذه الأغنيات الشعبية المحلية تتداول بشكل كبير في الأعراس، والمناسبات الاحتفالية المختلفة ، ترددها النساء أو يتغنى بها الرجال أيام الحصاد والدرس وخلال موسم جني الزيتون ، يرفعون بها حماس الناس ، ويتباهون بما لديهم أو لديهن من قدرة على الإبداع أو على الأقل على التذكر، وسرد صور جميلة للمرأة في حسنها واعتدالها ورشاقة قوامها ،وكذا تعدد ألوان ملابسها وزينتها :
[ دايرة بلوزة فوق بلوزةأفاطنة يانوارة اللوزة].
طبعا هو تشبيه نابع من ارتباط الشاعر الفنان بمحيطه ، ففيه تشبيه لملابس المرأة الجميلة بشجرة اللوز التي تجمع في أكمامها بين الأبيض الناصع والأحمر الجميل ، في صورة إبداعية تلفت الأنظار وتسحر القلوب.
ويمضي الشاعر الشعبي في وصف المرأة االبدوية والتغزل بها ، مرتبطا على الدوام ببيئته وواقعه ، متمنيا هذه المرة ،في صورة جميلة ومعبرة ، لو كان نهر ملوية يضم بين جنباته ” جردة ” أي حديقة فيها من صنوف الأزهار والورود ، تأتي بعد ذلك المحبوبة إلى هذه الحديقة تتجول وتتغنج وتنتقي ما يروقها من الورد والزهور :
[ أمزينك أملوية لوكان فيك النوارندير فيك الجردة وتجي غزالي تختار].
وكما عرف عن المرأة العربية من عفاف وتمنع وصدود وهجر في قصائد الشعر العربي الفصيح ، فإن هذه الصورة وجدت وبذات الحدة أو أكثر في القصيدة من الشعر الشعبي المحلي ، تذكيها روح المحبة الصادقة وتفجرها آلام الهجر والبعاد ، ربما برحيل الأهل أو بسبب الزواج أو أي أمر آخر من الأمور الحياتية التي تفرق عادة بين المحبين ، تظل خيوط الأمل قائمة ، في لقاء أو عودة ، تحترق لها أشواق الشاعر وتزداد معاناته ، يضمّن كل هذا وذلك رسالة يرسلها إلى المحبوبة ، يقول :
[ الغالية علالة جلاوها من لبلادمابقات تسول فلخاوة كضاة
أوسفطت لك برية فطاكسية خضرة
يا لْحَارْكَة لي الذات].
إن هذه الفنون التعبيرية الشعبية بكل إيقاعاتها وطقوسها وألوانها المتعددة والمختلفة هي معمار شفهي ، ونتاج للسليقة الشعبية عبر ممارسات وتجارب فردية واجتماعية ، تتناقلها الألسن ، بين الأزمنة والأمكنة ، عبر الذاكرة والذهنية الشعبية المعتمدة على الحفظ والاسترجاع ، يصعب أن تنسب إلى شخص أو أشخاص معينين ، أو تحدد بفترة زمكانية معينة ، لأنها لم تدون ، فهي خارجة عن التوثيق ، كونها تعتمد على الارتجال ،تظل مجهولة المصدر ،لا يعرف صاحبها ، قد يكون رجلا أو امرأة ، وقد تصبح مشتركة بفعل الإضافات أو الحذف جراء عملية تناقلها بين الأجيال ، وذلك حسب خصوصية كل منطقة وأعرافها وتقاليدها ، بيد أنها تظل خيوطا قوية ومتينة تكمّل نسيج ثقافتنا المغربية وانتماءاتها العربية ، لا يمكن إغفالها أو إقصاؤها ، لأن في ذلك شطب حضور إبداعي لشريحة واسعة وعريقة من أفراد هذا المجتمع الذي يعبر داخل حدوده الفنان عن رؤاه وأحلامه ، كضرب من إعادة إنتاج للموروث ، ومنح صياغات جديدة للمهمل والضائع والمفقود.
إن ما يحققه الفنان أي فنان ، عبر كل هذا ، رسم صورة رائعة لعالم يخصه ، يسكب في شرايين إبداعاته من انكساراته وإخفاقاته المادية والمعنوية ، بما يمنحها القدرة والتحول إلى طموحات كبرى ، يجسدها في واقع رائع وحالم وجميل ، تعتبر الطبيعة المُلهم الأول ، فيه ،متمردا أو رافضا لقيود الواقع ومعاييره التي لا تلائم التحولات الثقافية والحضارية .
بحيث يرى في ذلك مساسابحريته الإبداعية والتي يعبر من خلالها وبشكل منطقي عن معاناته الاجتماعية والعاطفية ، يكون الملاذ أثناء تأدية الأنشطة الموسمية من زرع أو حرث أو حصاد ، أو مشاهد أخرى عامة ومتنوعة كالرعي ، هو ما راكمته هذه الذاكرة من أهازيج شعبية مترجمة لحالات نفسية خاصة ، يقول أحد العمال ” الحصّاد :
سيدي مول لفدّان ما جاني ما غداني
عيني شافت غزال طاح لمنجل قدامي ].
إن المتأمل لهذا المقطع ، ليتبادر إلى ذهنه أولا ، نوع العلاقة بين العامل ورب العمل ، بين عامل مقابل أجر وبين سيده صاحب الضيعة ، فيكشف انعدام العلاقة الاجتماعية والتي يبخل فيها صاحب الضيعة بقليل من الطعام ، بل أكثر من ذلك ولو بإطلالة خاطفة ، من شأوها أن تخفف من مجهودات العامل المضنية في مواسم الحصاد وما يرافقها من إجهاد ومعاناة ، الأمر الذي جعل العامل يتحول إلى التعبير عن صورة نفسية كامنة ، هذه الصورة الغائبة / الحاضرة بقوة الوجود الكائن والخيالي هي صورة المرأة والتي كنّى عنها بالغزال ، وقد ترتب عن هذه الرؤية المفاجئة لـ ” لغزال ” سقوط آلة الحصاد المتمثلة في المنجل .
والنص صورتان جسّدتا مفارقة عجيبة ، الجامع بينهما هو صدق التعبير وتتبع الصور الشعرية الجميلة المعبرة عن هتين الحالتين النفسيتين المختلفتين ، ومحاولة تركيبهما معا ، عل القاسم المشترك بينهما هو الحرمان.
حيث استطاع الشاعر عبر مروره من حالة نفسية إلى أخرى ، بطريقة انسيابية ،تخفي وراءها القدرة على تجويد المعنى وسبكه .
يظل المشترك في مثل هذه الفسيفساء التعبيرية الأخاذة ، هو تقليص حدة المكابدة ،ودرء الملل ،تحت نير أعمال يدوية شاقة تتكرر.
ختاما ، نجد أن هذه الفنون على تنوعها واختلافها ، تظل لصيقة بهموم الإنسان القروي وأحلامه ، لذلك فهي تستحق مساءلة عوالمها ، باعتبارها إحدى روافد حضارتنا المغربية وثقافتنا العربية الأصيلة الواسعة والضاربة بجذورها في عمق التاريخ الإنساني .