عمّان –
في لحظة بعيدة من التاريخ، يقف بولاريس أمام حطام مدينته العتيقة “صور”، يذرف دمعة حارة على المدينة لكنه يذرف آلاف الخطوات بحثا عن سينثيا.
أنهم أبناء الأرجوان، أو الطبقة المخملية التي تصارعت وتعانقت في رواية تأخذك في عوالم مجهولة من تاريخ الإسكندر المقدوني وغزوه للعالم، مرورا بصور، تلك المدينة التي اختفت عن الوجود بعد أن داهمتها الحضارة المقدونية وأخرجتها خارج الحضارة الفينيقية، لكنها بقيت بحكاياتها وأسرارها وأساطيرها التي لا تزال عالقة في فضاء الحكايات.
في رواية “أبناء الأرجوان” الصادرة حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون” في عمّان تعيد الروائية والقاصة ديانا دودو سرد حكايات وقصص تخيلتها وفق سياقات تاريخية مضت، ووفق بناءات وفضاءات مفتوحة على الخيال والتأويل لتبني سردينها التي قدمت من خلالها العشق المجرد، والخوف المجرد، والتناقضات التي أخذت الحكاية إلى نهايات مفتوحة من خلال مسارين اتكأت عليهما الحكاية.
في الحكاية التاريخية التي حملت الأفكار التي ساقتها الروائية وحمّلتها أوزار النص يقف الإسكندر الغازي على تخوم لبنان، فتترأى له مدينة صور العظيمة، فتأخذه القسوة والغيرة على مدينة كانت من نماذج المدن العظيمة في الحضارة الفينيقية، فيدخلها، ويقضي على جميع من فيها من البشر، ويهدمها عن بكرة أبيها، ويأخذ ما تبقى من البشر سبايا وعبيد، يوزعهم على جنوده وهم في طريقهم لمصر، لكي ينقض على حضارة أخرى.
في كل الحروب تقف الفئات العاجزة عن الدفاع عن نفسها قاصرة أمام قوة السلاح والموت، ومن هذه الفئات الأطفال والشيوخ والنساء، ولعل بطلة الرواية التي تسبى لتكون حصة هكتور في طريقه إلى مصر هي سينثيا زوجة ومعشوقة بولاريس، وهو ربان سفينة، الذي كان خارج المدينة أثناء تدميرها…
يأتي بولاريس من قرطاج ليصل إلى صور التي لم تعد موجودة، فيبحث عن سينثيا ليكتشف أنها ضمن السبي وأنها في طريقها عبر فلسطين وصحراء مصر إلى الإسكندرية، فيقرر أن يلاحقها لكن عن طريق البحر، وفي هذه الأثناء تفتح الروائية دودو طريقين متوازيين لتأخذ القارئ في سياقات روائية وعوالم تشحنها الغيرة والحب والخوف والصراعات الدامية، لترسم ملامح حياة مكتملة وصراع ناضج يقود إلى وعي في عوالم مجهولة.
الرواية التي استخدمت فيها الروائية الأصوات المتعددة والمستويات السردية المختلفة جاءت لتؤكد على ولادة روائية مكتملة الأدوات وقادرة على إنضاج مشروعها وفق رؤية تشكلت في الأساس على مستوى قصصي مهم كان من خلال مجموعتها القصصية الأولى “وخزة دبوس” والتي تكونت من مجموعة من 14 قصة نشرتها وزارة الثقافة، وأن قراءتها في كتب التاريخ قد ألهمتها أسرار هذه الرواية وفتنتها، فكتاب حياة الإسكندر المقدوني وما يحمل في طياته من طرائف هذه السيرة قد تعالقت مع حياة أبطال الرواية وخلال المدى الزمني الذي بنته الروائية دودو والذي لم يتجاوز الـ6 إلى 8 شهور.
تعيدنا أجواء الرواية إلى تاريخ عريق لحضارة الفينيق، وأساطيرهم كطائر الفينيق، والياقوتة الحمراء، وشجرة الأرز، وغيرها، وحكاياتهم وأسماءهم، وطقوسهم، ولعل أبناء الأرجوان أو الاسم الذي اختص به العمل الروائي يأتي من تلك المدة الزمنية التي تدور فيها أحداث الرواية حيث يحمل غلاف الرواية أو العتبة الأولى لها لوحة الصدفة النادرة “صدفة الميوريكس” التي كانت تستخرج من البحار ليتم انتزاع اللون الأرجواني منها، وهو اللون الذي كانت تصبغ به ملابس الطبقات المخملية أو الباذخة الثراء، وكانت هذه من الحرف التي يختص فيها الفينيقيون وأبناء هذا اللون وهم أبطال الرواية ولأن شخوص الرواية قد جاءوا من هذه الطبقة فإن اسم الرواية هو أيضا جاء محمولا على هذا المكان.
تنتهي الأحداث في وادي النيل في مصر بعد أن قدمت الروائية حكاية مكتملة وفق صنعة روائية اقتربت من الكمال وحاولت من خلالها أن تؤسس لتجربة روائية جديدة ومهمة في هذا العمل…
من أجواء الرواية: “خرجت من الخيمة، أخذتها خطواتها بلا اتجاه بعيداً عن أضواء الخيام، عبث نسيم بثوبها فخلعت وشاحها وحلّت شعرها، أغمضت عينيها وحاولت أن تعيش آخر لحظات من الحرية نحو العبودية المطلقة، بدأت القضبان الحديدية تقفل على جسدها ونفسها، بدأت تناجي نفسها وتبكي: لو كان قلبي من زجاج لتَهشّمَ منذ زمن بعيد، هل هو الحب أم الذكرى ما يبقيني على قيد الحياة؟ رغبة الحياة ما زالت تحييني، تجعلني أرى شيئاً ما خلف تلك الآفاق البعيدة، ربما تتغير الأقدار وربما تتحول القوى، لي قلب يرى ما لا تراه العين ولا تسمعه الأذن، يرى عشقاً خفياً يجعل الذكرى تحيا في المخيلة وكأن الماضي هو الحقيقة فقط وكأن الحاضر ليس الآن، ضاع العمر وضاع الحاضر، ما يزال قلبي يرتعش من الغربة والبعد عن كل ما يعرف، هل هو الحب أم ذكرى ذلك الحب؟ أم دمعة على ماض احترق وبقي منه رماد الذكرى. قلبي وعقلي لا يتفقان، عقلي يقول لي بأن حباً ضمّني ذات يوم لن يعود وأنه ضاع إلى الأبد، وقلبي يبكي ويدمع دمعة واحدة حزينة يتوسّل الأمل”.