ما بين رداءة النقد واستسهال الممارسة الإبداعية، تقع معضلة الانحياز الثقافي، فيتسمم المشهد الثقافي العربي، وتنحسر أصوات الظل وتُقمع أسماء الهامش، لا لشيء إلاّ لكون سدنة مثل هذه الوجاهات، ينفخون في ريش من يحلو لهم ممن يعتبرونهم أهدافا سهلة، تحقق لهم الربح والمصلحة.
كثيرا ما نسمع أن الجسد الغض البض لكاتبة أو فنانة ما، أهّلها وبدون منازع، لحصاد جائزة مهمة، برعاية عصابة معربدة، كل همها أن تنتهز وتنهش وتمتص الدم وتحصّل المال، في تواطؤ خسيس ما بين رعاة النقد الخصي وأبواق التفاهة التي لا تكرس لسوى آفاق الخدر وتعتيم العقول وإفساد الذوق.
إن الثقافة الحقيقية، غالبا ما تتسربل برداء الثورة على كل ما يسيء للكائن، وقد يلطّخ عالمه، فيجر بالتالي، على الإثنين الويل والدمار.
بيد أن تمرد كل مثقف حقيقي، يضل خفيض الصوت، برود النبرة، مناهضا لخطاب الكراهية والتحريض، مخلصا لديدن الثورة في بعدها الإيجابي البناء.
نجهر بهذه الحقيقة، لأن الكيل قد طفح، وقافلة هؤلاء الذين لا شرف لهم، باتت أكثر مباهاة بما تزين لها الدوغمائية وتضخم لها الأنا المرَضية، أنها تبليه في الراهن الإبداعي والثقافي العربي المنشود، بينما لسان الحال يقول أن هذا المشهد منها براء، وأنها تجور عليه فوق كل التوقعات، وتفرز مزيدا من التسطيح والتمكين للتفاهة في سلطتها وجبروتها على الأجيال.
مع أنّي ضدّ مصادرة الحق في الكتابة والإبداع عموما، كون هناك من يبدأ متواضعا، فيراكم تجربته، كي يصل إلى المقبول والباعث على التجاوب انتهاء، وبالطبع ذلك إنما يتسنّى بالمصداقية والإخلاص إلى المهمّة ونبل الرسالة أيضا، إلاّ أني أضم صوتي، بكل تأكيد، إلى صف المنادين بضرورة رسم ملامح مدرسة ثقافية عربية يسمها التنوع والتشاكل وتلاقح البصمات الإبداعية في مختلف حقول الجود الذهني والجمالي.
مثلما أرفض الرفض القطعي الوصاية الأكاديمية المتغطرسة، والتي لا تتقنع بغير دال الشرف المزعوم التي تلوث كل الجهود البريئة وتعصف بالنوايا الحسنة، الرامية إلى تجويد نظير هذا المشهد الثقافية الحامل لروح وهوية جيل بدّلته الثورة التكنلوجية بالكامل، له مواقفه ورؤاه التي تعزيه في تاريخ عقدة الأبوة، بل وتسعفه في محاولات ترتيب الأوراق من جديد، على نحو لا يُخل بمكتسبات الانتماء إلى ذاكرة الأمجاد، وزخم التصالحات مع الصفحات الأكثر إشراقا في تلكم الماضوية، إذ تملي عليه إشباع الخبرة الآنية، كما الاستفادة قدر المستطاع من دروس وعبر التاريخ.
إن الخلاص من وطأة الوجاهة الثقافية، وطنيا وعربيا، سيشكل ولابد، منعطفا إبداعيا وثقافيا، يُحسب لأبناء لغة الضاد، ويخول لنا القطيعة مع صور التهجين وتجليات الفرنكوفونية الحاضنة لشتى أضرب تشويه المشهد، ومنح الضوء الأخضر للنخب المتحزّبة، تبعا لما تفتي به لغة الاصطفاف والمحسوبية وضيق المآرب، ليحدث ما يحدث توزيع الأوهام كأنها حلوى سامة، على الطامعين، ومن ثم تغييب الأصوات الحقيقية وجعلها تختنق بدياجي هامشيتها وعزلتها ونأيها عن مركز المحاباة والاحتكاكات المنافقة والمركزية الجوفاء.
ختاما، وارتباطا بالموضوع، اسوق هنا مثالا واحدا فقط ، ولو أن اللائحة طويلة جدا، لإبراز حجم الإشكالية في تغطيتها على هذا الجرح العميق بأنينه وصديده وتقرّحاته، كي لا نكتفي بلعنة تاليه المركزية الثقافية في تلوّن آي جورها على كنوز الهامش وزخم لوحاته التي ينصفها الخلود، وإن واراها سدنة الوجاهة وأرباب تكسبيتها.
أراهم يدلّلون على نزاهة ما استخلفوا عليه، بعصامية شكري، مثلا، والمؤكد أن هذا الأخير، لم يختر مصيره، بل انتقته الكتابة، واختاره زمن العزف على وتر الشواذ، بما يمنح بصمته القيمة والبروز، وهذا ليس انتقاصا من شخصه أو من خصوبة سردياته، غير أن العجيب في الامر برمته، أنهم، أي هؤلاء السدنة، نسوا والأرجح أنهم تناسوا، كون شكري إنما اخترق المؤسسة الثقافية من الخارج، إذ الصحيح أن شكري إنما الّهته وأنصفته الترجمة وألسن العجم، قبل أن يتعملق في عيون المغاربة والعرب.
*كاتب من المغرب