“إيقاعات من الماضي ” عصام زروالي ـ المغرب

بحي من الأحياء التقليدية في مدينة باريس يمكث “بريموز” في منزل صغير في الزاوية اليمنى من زقاق ضيق جدا، في وسط الدار حجرة اعتاد المكوث فيها لساعات، يقرأ الكتب، ويرتشف القهوى، ويحاول اختراق الواقع والممكن لينتقل إلى الخيال، من خلال الكتب والعزف على القيثارة، أتى اليوم الذي كانت فيه أعبائه كفيلة بأن تجعله يخرج من تلك الغرفة ومن تلك الدار، ويذهب مطأطأ الرأس منكسر الهمة مسافرا عبر الزمن، للحظات كانت عريقة وجميلة في مسقط رأسه، بلدة “ريوميز” وصل، ثم في مدخل البلدة وقف وبدأ في البكاء، بكاء شديد يحمل معه كل ما مر به في ظل غربته وشوقه لبلاده وبالأخص شوقه للماضي، لذلك أتى مسافرا عبر الزمن، تحمله أطياف لأناس من الأمس عايشهم بنشاط وخفة وسعادة، كل ما كانت تحمله تلك الذاكرة المرهقة مرتبط بلحظات جمعت فيها القيثارة بينه وبين شخص آخر ليتراقصا كالسنابل في حقل من المشاعر، شفط دموعه بيده، ثم عاد أن حمل حقيبتيه وانطلق يجر أطيافه ونوسطالجيا الإيقاعات التي تحسه كأنما يطفو في اللازمكان تراقص خطوات قدميه، وصل إلى وسط المدينة والتفت يمينا فوجد حانة مكتوب على لافتة ضخمة فوق الباب “حانة ريوميز” ، وكأنه يذكرها، كانت مألوفة له جدا ، لحظة! إنها الحانة التي عمل فيها في فترة شبابه عازفا، نظر مليا وأعينه تحاكي الغبطة التي يحس بها ثم مشى نحو الباب، الباب مورب، دخل وتوجه نحو الساقي
-من فضلك كالعادة، وكعادتي قبل عشرين سنة.
ثم أجاب الساقي
-‏ومن أنت أيها الغريب؟ماذا تقصد بكلامك هذا؟
ابتسم بريموز وهو يزيل قبعته قائلا:
-ربما لم تعرفني، وربما لن تعرفني، لكن لربما أنغامي ستذكرك بالماضي سيد ريكس، ثم إن أهم ما أريده حاليا هو مشروب فودكا مع القليل من حبات العنب وبعض الليمون، وبينما تعده ستكتشف من أنا، ثم إنني استغرب أنك لم تعرفني، فقد كنت تراقص دوما أنغامي، كما كانت فناجينك تراقصني.
استعجب الساقي وهو يحدق إليه بغرابة حول الطريقة التي قد يكون عرف بها اسمه، أو هل حقا هما يعرفان بعضهما أم أن الرجل يدعي ذلك؟
توجه بريموز نحو ركن الحانة، وأخذه الشوق حالما وقعت عيناه على خشبة العرض والآلات الموسيقية، وتذكر الأيام الخوالي، قرر أن يصعد ويعزف، صعد على الخشبة، وما إن فعل ذلك حتى صاح الزبائن له، ظنو أن صاحب الحانة قد أحضر موسيقيا، اقتعد بريموز كرسي العرض وحوله آلات الموسيقى، أخرج بيده اليسرى قيثارة عتيقة بدت وكأنها قطعة أثرية من العصور الوسطى، وأخرج بيده اليمنى لفافة تبغ ملفوفة بعناية، ممزوج فيها بعض حبيبات القنب وأوراق معشوقة محبي العطاس “طابة”، أخرج بريموز عود كبريت وجعله يحتك في ركن أسودَ صغيرا في أعلى القيثارة، بدى وكأنه كان معدًا لإشعال أعواد الثقاب، أشعل اللفافة في لحظة جمعت بين الدخان المنسدل إلى السماء كما الخيوط الرقيقة، وكذا مجاري الزيت التي تفرزه مادة القنب على طول اللفافة من أسفلها إلى قبعتها الحمراء مما يجعل الورق شفافا يبدي للناظر الأحزان الملفوفة هنالك، ارتشف مرات عديدة من لفافة القنب حتى اختفت ملامحه خلف الدخان، وأخذت أصابعه تحرك الأوتار بشكل يحاكي اللا ممكن أو الخيال أو المستحيل، العزف مستمر واستعار القلوب مستمر، وكأنما يعزف على القلوب وليس على الأوتار، هو يعزف وإيقاعاته تتكبد عناء استحضار أطياف ماضيه الجميل، فتجعله فكرة أن هذه السعادة كانت من الماضي ولن تكون مجددا أو تكرر نادما، هذا لم يمنعه من مواصلة العزف
-في هذه الأثناء نجد السيد ريكس الساقي في ذهول تام، هو يعرف هذه المعزوفة ويعرف عازفها، فمن هو؟ وفي لحظة تبدو كأن لنبرة في الإيقاعات مُكهرب للذاكرة ومنعش لها، فخاطب نفسه، اااا نعم لقد تذكرته ، إنه بريموز ذو الأنغام.
وعلى وقع إيقاع النهاية، نهض بريموز من مكانه، حمل قيثارته، وجعل فاه اللفافة في قوقعة بحرية خصصت لأن تطفأ فيها السجائر، ثم نزل من على الخشبة متجها نحو الساقي، بقيت خطوات قليلة، ففاجأه الساقي بمخاطبته باسمه:
-بريموز، أنت بريموز ذو الأنغام، لقد تذكرتك، وجدتني اليوم بالذات قد تساءلت عن مصيرك، وأين وصلت ؟ أظنك قد وصلت لما كنت تصبو له.
أجاب بريموز بنبرة فيها حدة قائلا: تستمرون في إطلاق الاحكام دون معرفة المسلك هل كان صعبا؟ أم سهلا؟ سأجيبك يا سيد ريكس على أسئلتك باختصار، لأني لا أريد أن أفصح عن حياتي بشكل واضح، هذا راجع لأنني عانيت لوحدي ولم يعاني معي أحد.
هنا يرجعنا الزمن إلى طفولة وشباب بريموز، إلى حدود سنه التاسع عشر، فقد ولد ونشأ في تلك البلدة، كان منذ صغره إلى أن غادر القرية يحب الآلات الموسيقية وخصوصا القيثارة، وكان يعزف كذلك كما أحبَّ القصص والكتب والإستماع إلى الموسيقى، وكتابة الشعر والقصص، لكن الحلم الأسمى للسيد بريموز كان هو أن يجعل العالم بأسره يسمع مقطوعاته الموسيقية على قيثارته، كان شابا حالما ونشطا ، يرتقع ظل شجرة العرعار في مدخل القرية، ذاك مكانه، إلى أن قرر يوما أن يسافر بحثا عن حلمه، حمل قيثارته وبعض احتياجاته، وانطلق وهو يعزف ويغني.
وتكملة القصة في الحانة حيث يخاطب بريموز السيد ريكس قائلا.
عندما خرجت من القرية تغيرت الكثير من الأشياء، واكتشفت الكثير من الأشياء، وأهمها أن الفن دفين فينا ليس لأجل أحد بل لأجلنا نحن الفنانون، فأينما وجد الفن وجد الفنان، وأينما وجد الفنان غابت الجماهير، لقد جبت نصف الكرة الأرضية محاولا القبض عليه، إنه حلمي، غنيت وعزفت في الساحات والأبراج والحانات، حاكيت الطبيعة بجمادها وحراكها، بأشجارها وأحجارها، بطيورها وحيواناتها بإقاعاتي، لكني لم أنجح في محاكاة الناس دفعة واحدة، لم أنجح في أن اجعل العالم يذكر اسمي وأنغامي، فما كانت رحلتي إلا تجربة قاسية أضعت فيها عشرين سنة من الوقت، في محاولة إيجاد لغز علاقة الفن بالفنان والجماهير، لم أندم على هذه الرحلة، فقد غيرتني جدا ولها الفضل، لكن ما ندمت عليه هو خطأ تقديري لعلاقة الموسيقى بالذات وبالجماهير، نادم لأنني لم أفهم فكرة أن الموسيقى لذاتك أولا بشكل شبه مطلق، ومن ثمة للجماهير، القصة بخلاصة سيد ريكس أنني لم أنجز إنجازا عظيما، لكن تجربتي كانت عظيمة، الآن وداعا فلأراك في وقت لاحق.
-حسنا وداعا سيد بريموز زرنا مجددا.
خرج بريموز يجر أشباحه التي لا تفارقه وأنغام الموسيقى كذلك التي لا تفارق آذانه، بدى وكأنه كان يريد سرد قصته، وفي نفس الوقت لا يريد، بدى يبحث عن حضن، وفي نفس الوقت لا يرضى استعطاف أحد، هذا جعله يبدأ القصة وينهيها بإيشارات دون التفاصيل، لربما هنالك سبب آخر لهذا، ربما السبب كان في تلك التفاصيل المثيرة، ربما كانت قاسية ومؤلمة، فلم يكن قادرا على استحضارها وتحمل عبئ ألمها، بدى وكأنه أعلن عظمته، وفي نفس الوقت هزيمته.
وفي صباح اليوم التالي وُجِد بريموز ميتا تحت الشجرة التي أمضى تحتها طفولته وشبابه، وجد ميتا والطيور تعزف مقطوعته الأخيرة بقيثارة الحزن والضياع، لقد مات بمرض عضال اكتسح جسده لعقد من الزمن، هذا ما أخبرنا به الأطباء في المشرحة، وقد صحَّ قول بريموز ” أينما وجد الفنان وجد الفن وغابت الجماهير ” وأنا أقول ” حينما يختفي الفن يختفي الفنان وتظهر الجماهير لتحمل جثة الفن وجثة الفنان” أخبرنا الرجل الذي وجده ميتا تحت الشجرة، أنه وجده يقتعد على الأرض تحت الشجرة، وأصابعه تمسك بأوتار القيثارة كما لو أنه كان يعزف قبل موته أو أثنائها، فكانت مقطوعتَهُ الأخيرة، ونهاية فن لم يأبه به العالم.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي

د.حسن بوعجب| المغرب             لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات