كمال عبد الرحمن| العراق
* قصيدة(العَطَشُ لشفتيّكِ لايعْني البحثُ عن الماء) للشاعر عبد الجبار الجبوري
قبل البدء بدراسة هذه القصيدة، لابد من مناقشة قضية مهمة في كتابات عبد الجبوري الشعرية، وهي مسألة ( العتبة العنوانية)، كيف يختار الشاعر عناوين دواوينه؟، لاشك ان بعض عناوين الشاعر اثارت جدلا ومناقشة، وفي غالبها لايصب في مصلحة الشاعر، الجبوري عاطفي الى درجة المبالغة والجنون،
لكنني اعترف بجنون عتبات الشاعر ــ العنونة ــ، فهو يحاول أن يخترق النص من خلال المناص، ولايعترف بانفصال الدولتين عن بعضهما، لاشك ان دولة المناص قد تطورت تطورا سريعا، ربما اسرع من تطور النص، مع ان ( المناص التكميلي) هو تابع للقصيدة، وان كانت هي الجسد فهو الرأس، لاينجح كثير من الكتّاب والمبدعون العرب في تقديم نصوصهم تحت لافتة عتبة عنوانية متناسقة أو متوائمة مع النص، الجبوري شأن غيره ممن يغامرون في تأطير مملكة النص بعنوان فاره وباذخ، ظنا منهم ان افضل عتبة عنوانية، هي تكون على الطريقة التقليدية ( الكتاب يُعرف من عنوانه!)، هذا الكلام لم يعد يعمل في خدمة النص، بل تطورت العنونة تطورا كبيرا، وان كان هذا التطور ينبغي أن يكون ملازما وملائما لتطور النص (1)، ويعاني الشاعر عبد الجبار الجبوري من أزمة أو محنة العنوان، يختار عناوينه باستعجال، وهو يعتقد أنه يفعل الشيء الصحيح، لكن هذه المعاناة يمكن تخريجها وتأويلها على النحو الآتي:
** عنوان ديوانه ( البحر ليس اسمي)، هذا تشكيل عنواني تأويلي (2) وفيهذاالتشكيليسعىالناصإلىرسمملامحعنوانهورفدهبلغةعاليةالشعريةوخاصة،تقومعلىإيهامالقارئ–للوهلةالأولى- بتعطيلالعلاقةالعمليةبينالعنوانوالنص،الأمرالذييترتبعليهالغوصعميقافيبحرالقراءةبغيةالبحثعنالعلاقةالتيعلىأساسهاتحاولنصيةالعنوانالإحالةإلىنصيةالنص،خاصةوأنالعناوينالشعريةالحديثةتؤشربجلاءقياممسافةمائزةبينالعنوانودلالةالنص(3).عندذلكنجدالقراءةتتجاوزالبعدالدلاليالأولللعنوانإلىأبعادأعمقبغيةالتأويل، ويكون على ثلاثة انساق :
** اسمي ( اكبر من البحر)
** اسمي ( البحر)
** اسمي( اصغر أو خارج قيمة البحر)، وهذا معناه يتأتى من حال نفسانية، تضرب النّاص، وتجعله يتقوقع في دهاليز القصيدة، فهو يتمنى ان يكون البحر اسمه ولكن ( البحر ليس اسمه)، وهي مثاقفة عتباتية، تجعل الشاعر يغوص في المسافة المائزة بين الأمل واللأمل، هو يقول انا اعرف ذلك ولكنني أتمنى .. مجرد أمنية!.
وفي عنوان ديوانه الآخر(العَطَشُ لشفتيّكِ لايعْني البحثُ عن الماء)، ففيه شعرية تضاد واضحة، العطش يعني البحث عن الماء، لكن عطش الشاعر هو بحث عن شيء آخر غير الماء، والعشاق جميعا لايبحثون سوى عن شيء واحد هو ( اللقاء) الذي يروى ظمأ العشاق.
وعندما ننتقل من مناقشة ( العتبات العنوانية ) للشاعر، نأتي الى المجاز في القصيدة، ونناقش ( الاستعارة ) فيها، فعندما قال الجرجاني ان صناعة الألفاظ المسبوكة سبكا دقيقا تؤدي الى صناعة فكر عميقة،فأنه كان يؤكد في كتابه دلائل الأعجاز على صناعة البلاغة في تركيب اللفظ واخراج الكلام مخرجا حسنا(4)،لكنه لم ينسَ (شرف المعنى ) حين قال:
((أنه لايُتصورأن تعرف لفظا موضحا من غير ان تعرف معناه ولا ان تتوخى في الألفاظ من حيث هي الفاظ ترتيبا ونظما،وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر فيه هناك)) ثم يضيف:
(( وأنك أذا فرغت من ترتيب نفسك لم تحتج الى أن تستأنف فكرا في ترتيب ألألفاظ،بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها وان العلم بمواقع المعاني في النفس،علم مواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق))(5) فمن هنا تنشأ فكرة ترابط واتصال وانسجام عناصر النص بعضها ببعض،لتتشكل من خلال وحدة النص ووحدة الشكل ووحدة الموضوع، وان النص/ القصيدة ليست الا كُلاّ يتضمن اجزاء متناسقة ومتماسكة فنيا وعضويا،اي انها كتلة لغوية ذات
خصائص فنية عالية الجودة،وأجود الشعر ما رأيته متلاحما،سهل المخارج،أفرغ فراغا جيدا وسبك سبكا واحدا(6).
تشتغل قصيدة عبد الجبار الجبوري( العَطَشُ لشفتيّكِ لايعْني البحثُ عن الماء)عامة على الاستعارة التي هي صورة من صور (المجاز) في اللغة كما قلنا،حيث تتشكل هذه القصيدة من خلال عدد كبير من الصور،يقوم بعضها على الجدلية ،والاخرعلى التناقض وغيره على المفارقةوغير ذلك.
في قصيدة الجبوري هذه نقرأ:
1.( أنا ماءُ الكلامِ)
2.(إسرجيْ خطوَتكِ على غيمةِ صَمتي)
3.( وتبتّلُّ لحيةُ حرفي بالهذيان)
4. (ويمسحُ دمعةَ آثامي الليلُ)
5.(وألْهُو كَما تلعبُ في البريّةِ غزلانُ الوقت)
6.(أنتِ بأعماقِ دَمي وشريان هيامي)
7.(أرى العطش في شفتيك)
8.(ويشتعلُ الماءُ على خديّك)
9. (أشجارَ طفولتكِ تنمو على نهديّكِ)
10.(كما تموت الحروفُ على سندانِ ظلامي)
11.(ووقتي حزينٌ، والسماء لاتُمطِر ُغيرَ القُبَلِ)
12.(غداً أُمسِكُ غيمتك وأقود سِربَ نجومِها)
13.(الى بساتين ضحكتك)
14.( لترعى من سهولِها عشبَ المُدام)
15.( غداً ، أمسكُ حُزنَكِ من قرنيّه)
أضف الى ذلك(يأخذه النسيان/ الفرح الابيض/ الآتي من عينيك/ عصافير القُبل .. الخ)
السؤال.. هل (العَطَشُ لشفتيّكِ لايعْني البحثُ عنالماء)هي قصيدة(استعارات)..؟
ان تعريف الاستعارة على بساطته وشيوع تداوله في الكتابة فيه شيء من الابهام، فثمة سرّ هنا ،وتفسير (او مقترح تفسير)هناك،وغموض في هذا الجانب من
التعريف،ووضوح (او بعض وضوح)هناك.
الاستعارة ببساطةشديدة هي(تشبيه حُذف أحد طرفيه الرئيسين(المشبه) أو (المشبه به) بعد حذف ألأداة ووجه الشبه)(7) ،وهي نوعان(التصريحية)و(المكنية).
واساس جمال الاستعارة في كل الاحوال(ان تكون معبرة عن شعور الاديب (النّاص)ملائمة للفكرة متسقة مع غيرها من الصور في الموضوع)،كما ان هذه الاستعارة لها القدرة على (جعل غير المحس محسا وغير الشخص شخصا) وبامكانها (خلق صور خيالية متعددة باستعارة شيء لشيء اخر ليس من طبعه) وكذلك فان فيها (تحولا من طبائع التقليد الى طبائع التجديد والتخيل)،ولكن هذا كله لايقارن بتعريف ألاستعارةعلى انها( حاجة نفسية يُروىبها ظمأها بالخروج من قمقم المعاني الجاهزة( التقليدية ـ المكررة) الى مجرات التخيل والسمو الوجداني مرورا بالرؤى والكوابيس والخرافات والاساطير والتواريخ وغير ذلك مما يجعل النفس في لهاث دائم لخلق الصورة الاخرى التي تؤطر ابداع النص بالاستعارة التي هي منفذ من الاحتباس نحو فضاءات لدى الناص).الاستعارة لدىالجبوري لا تقفعند مستوى التشبيه التمثيلي(التقليدي) بل تسمو الى اعالي الكلام ليست كما نراها او نتخيلها من خلال النص،فليست الاستعارة ألصاقا قسريا او فوضويا لدالّين لغويين لايتعالق فيهما اللفظ مع سر اسرار المعنى،بل هي فلسفة خلق( المعنى الخاص) عبر تشكيلات لفظية اخّاذة منتخبة بوعي بلاغي راق ترفع المعنى عن مستوى (التشبيه الكلاسيكي) أو (التخيل المنقوص) او (الاسطرة المهلهلة)او(العماية التي تدعي الغموض) يقول أدونيس في توضيح الفرق بين التشبيه والصورة:((يخلط الكثيرون بين التشبيه والصورة،حتى ليندربين قرّاء الشعر الجديد وناقديه مَن يميزون تمييزا صحيحا بينهماالتشبيه يجمع بين طرفين محسوسين،انه يبقى على الجسر الممدود بين الاشياء،فهو لذلك ابتعاد عن العالم،اما الصورة فتهدم هذا الجسر،لانها توحد فيما بين الاشياء،وهي اذ تتيح الوحدة مع العالم ،تتيح امتلاكه))(8).ان المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة بين المعنيين مع قرينة مانعة من ارادة المعنى الحقيقي،والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي قد تكون المشابهة وقد تكون غيرها والقرينة قد تكون لفظية وقد تكون حالية(9).ان لغة الجاز ،هي لغة منزاحة وهي (لغة داخل لغة)(10) والاستعارة هي صورة من صور المجاز،ومثال على ذلك،لو اردنا ان نعبّر عن حركتي(المد والجزر)في البحر،ولنصور(عنف المد) دون( رخاوة الجزر)، ومن هذا العنف في المد الذي يصور البحر هائجا هاجما علىاليابسة،لنختر مفردات(حقيقية) تقليدية ثم نعيد تصويرها بالأستعارة:
المد(الحقيقي ) مد(الاستعارة)
بصورتها الاعتيادية للجميع قسم من ساحله)
واسبابها العلمية واضحة) 2.مدّ الجنون:(جُنّ البحر بسبب الرياح والقمر)
3.هيجان البحر:(هاج بسبب العصف واضطراب
الرياح)
4.سياط البحر (أمواجه تضرب الساحل كانها سياط)
5.صرخة الماء:(اصوات الامواج والرياح تضرب
الساحل)
6.لسان البحر:(هاج البحر وغضب فمد لسانه على
الساحل)
هذه ابسط اشكال( الاستعارة )،وقد رفعنا كلمة(مد)وابدلناها كلمات اخرى مثل(ثورة/هيجان/سياط ..الخ) ثم رفعنا كلمة(البحر) وابدلناها بكلمات(الجنون/الماء) وفي ثالثة استبدلنا(مد البحر)ب(صرخة الماء)،ولو سألنا اية صورة من هذه الصور هي الادق تعبيرا والارقى وصفا ،لاختلفت الاراء وطالت الجدليات،وهذه هي حال الاستعارة بحث دائم لخلق المعاني الخاصة،فمن واجب الناص ان يحرث في ارض الكلام بحثا عن استعارات قادرة على تحويل العبارة من (طبائع التقليد)الى (آفاق التجديد والتخيل).
أما الشاعر عبد الجبار الجبوري فقد تجاوز هذا كله،فلم تعد الاستعارة لديه هي تبديل صور او تخيل معان جديدة،بل استعارته هي فلسفة خلق(المعنى الخاص)كما قلنا ،وعودة الى (العَطَشُ لشفتيّكِ لايعْني البحثُ عن الماء)الجبوري،نستحضر بعض استعاراته:
أنا ماءُ الكلامِ
تتدفق المشاعر لدى العشاق كما يتدفق الماء، الصورة هنا تعبير عن توقد ( الأنا) في مجمرة الاشتياق ،تتهافت ملامح الألم في مسغبة المجهول ، فالصبر باصرة رقراقة ، تتيه في صحراء الانتظار، الكلام أنصاف حلول ، لرؤى يابسة عطلها الاشتياق الذي يتسلق نفسه حتى قمة السدى، ولا صدى يوصل الدليل الى نقطة ضوء في آخر النفق ، فكيف اذا تأكدنا أنه لايوجد هناك نفق، فما الذي تطاله الكلمات .. أو ماء الكلام !؟.
اذاً..تتقولب ( الأنا) في لظاها ، تتدفق الصور التي فقدت صبرها.. ويضيع الكلام!
إسرجيْ خطوَتكِ على غيمةِ صَمتي
هي دعوة للآخر لامتطاء اجنحة الفرح ، الصمت يورق ندى ، والكلمات تقف على رؤوس أصابعها ، اسرعي ايتها الغيمة ، فإنك ( طائر شلوى ) يأتي بالأخبارالفارهة الراقصة من شدة السعادة، اقبلي يا مُزن الذكرى، اقدمي يا ألوان قوس قزح، هي صورة تتسامى فيها حرارة الدعوة مزامنة مع دعاء الريح ، وهي أيضا اشارة للريح بالإسراع ، كونها الوسيلة التي تحمل على ظهرها الغيوم ، وغيوم الصمت كناية عن مجاز انزياحي ، يتحرك متفاعلا مع ثقل الخطى التي فقدت مشاعرها، جراء اصرار الشاعر على تقريب البعيد، مرة بالوعد ومرة بالوعيد، خوفا من أنتبتّلُّ لحيةُ حرفه بالهذيان.
ويمسحُ دمعةَ آثامي الليلُ
هذه استعارة بمقدورها ان تحول الحي الى جماد بطريقة(الشيئنة)التي يتقنها كمال ابو ديب،وهذه الدمعةالتي تيبست فيها احرف الكلام،وتحول صمتها(جراء كثرة الصياح أو الصراخ ) الى آثام تلقي بحملها على الليل وأسراره، فالليل يصغي دائما الى مناقب العشاق ، مهما كانت تفاهة شكاواهم، يربت على أكتاف الدمعة الهاربة من نفسها، يقرأ لها شيئا من أوجاع آدم ومرارة داود، ثم يغلفها بسليفون الأسى ، ويودعها الى أقرب مركز شرطة للعشاق!
وألْهُو كَما تلعبُ في البريّةِ غزلانُ الوقت
الزمن الأستباقي لدى العشاق هو فوضي تخلخل البنية السردية للحدث،
وهو تقنية زمنية تدل على حركة سردية تروى أو تذكر بحدث سابق مقدما(11)،أي انه ـ الاستباق ـ يروى أحداثا سابقة عن أوانها أو يمكن توقع حدوثها(12) ويتطلب ذلك((القفز على فترة ما من السرد وتجاوز النقطة التي وصل اليها الخطاب لأستشراف مستقبل الاحداث،والتطلع الى ماسيحصل من مستجدات))(13)
والأستباق بهذا المفهوم يعني التوغل في المستقبل الحكائي القريب او البعيد،والافصاح عن الهدف أو ملامحه قبل الوصول الفعلي اليه،او الاشارة الى الغاية المستقبلية قبل وضع اليد عليها(14)
ومهما يكن من أمر،فان الحاضر قد يحتاج لأستكمال بنيته السردية الى استنطاق أو في الاقل استحضار شيء من الماضي وشيء من المستقبل ــ كماأشرنا سابقا الى ذلك ــ، أي قدلا تكتمل الحادثة الآنية الا بحادثة ماضوية أو مستقبلية،وهذه المستقبلية تقع في الزمن الاستباقي للنص.
لا شك أن ارهاصات اللقاء أو ما قبل اللقاء لاتختلف كثيرا عن سعادة طفل بليلة العيد، الشاعر يفقد صبره، لايفرّق بين الحاضر والماضي ، القريب أو البعيد، فهو في لهو ان لم نقل هو في غيبوبة اللقاء أو اللقاء المرتقب، هو أمس هو الآن هو غدا، لكنه يستبق الزمن عندما تتراقص الساعات بين يديه وكأنها ثوانٍ تمرق مروق البرق.
أنتِ بأعماقِ دَمي وشريان هيامي
هذه صورة مجازية، تشتغل فيها الاستعارة على نوعين من التعالق الذهني ( أعماق دمي/ شريان هيامي)، هذه الجدلية الاستعارية، فيها جدلية تناظرية معكوسة أو مقلوبة، فأعماق الدم، هي صورة داخلية تتنقل داخل الشريان، والعكس ليس صحيحا، فالشريان لاينتقل داخل الدم، هو حامل الصورة المجازية، في تضاد تفاعلي بين ( الدم ) و(الشريان)، ينسكب الآخر في أعماق ( الأنا) من خلال مسافة تقابلية بين الدم وحامله، وبين الحامل ( الناقل) ومادته الهيلوكلوبينية، وهناك في أعماق القلب يضع الشاعر حبيبه،كي يأمن عليه من أسى أو أذى، ويأتمن عليه حشاشة الأعماق، عميقا عميقا توغل الكلمات في ( لبّ الفؤاد) وتلك صورة نادرة عن حرص العاشق وخوف على محبوبه من غدر الخارج، فيودعه مسارات الأعماق التي لاتصل اليها سوى مشاعر العاشق الولهان.
كما تموت الحروفُ على سندانِ ظلامي
الحروف لاتموت، هذه استعارة جميلة كناية عن اجهاض الكلام في موقف صادم، حبال الحروف ترتخي من شدة الشوق، وكأنها تتلاشى تحت سطوة الهيام، والظلام الذي أضاع ملامح الكلمات قادر على إحكام مغاليق على نشوة الحرف المتشظي رؤى والتماسات الحبيب للمحبوب ، بل توسلات لاتفقهها العتمة، ويرفع السندان، وهو حامل الضغط الأبدي، من استبداد المطرقة، ما لايُطاق، فيشهر إظلامه بوجه الحروف التي فقدت كبرياءها من الأسى والجلد، وهي تنوء تحت صبر تعاني منه الجبال، حين يكون الآخر مدى وأفقا من العشق الذي لايمكن تصوره، والنفس تنوء تحت إصر التشظي، بينما الظلام يبتلع الحروف، فتبدو للهائم الولهان وكأنها تموت!
غداً أُمسِكُ غيمتك وأقود سِربَ نجومِها
يشي هذا المقطع باستشراف زمني واضح،والاستشراف:تقنية زمنية تخبر صراحة أو ضمنا عن احداث سيشهدها السرد الشعري في وقت لاحق.(15)
فأن استشراق الحوادث التي ستقع في المستقبل يبدو بعيدا عن المنطق أول وهلة،لأن هذه الحوادث لم تقع بعد وليس هناك تعيين بأنها ستقع لاحقا،اضافة الى ايراد ما سيقع قبل وقوعه يقلل من فرص تشويق القارىء،ويظهر الشاعر بمظهر العالم المتعالي على القارىء المروى له(16).
من هنا يمكن القول أن الاستشراف هو شكل من اشكال الانتظار أو التطلع(17)،انه استشراف للمستقبل الذي يكمن في استيحاء احداث تسبق النقطة التي وصل اليها السرد الذي سيتنامى(صعدا)من الماضي الى المستقبل،يقفز الى الامام متخطيا النقطة التي وصل اليها،الاستشراف اذن حكي الشيء قبل وقوعه،وترتبط تقنية الاستشراف بما سمّاه(تودوروف) عقدة القدر المكتوب،والشكل الشعري الذي يستطيع الناص فيه ان يشير الى احداث لاحقة هو شكل الترجمة الذاتية او القصص المكتوب بضمير المتكلم(18)،حيث ان الراوي يحكي قصة حياته حينما تقترب من الانتهاء ويعلم ما وقع قبل لحظة وبعدها بداية القص ويستطيع الاشارة الى الحوادث اللاحقة دون اخلال بمنطقية النص ومنطقية التسلسل الزمني(19).
أن الزمن من الركائز الاساسية في العملية السردية ،وعليه تقع وظيفة تحويل الحدث الخام الى حدث مسرود،فضلا عن قوة ارتباط العناصر الاخرى به،أذ((لا يعيش منعزلا عن باقي عناصر السرد،وانما يدخل في علاقات متعددة مع المكونات الحكائية للسرد كالشخصيات والاحداث والرؤيات السردية))(20) فالشخصية مثلا لايمكنها أن تعيش وتنمو وتتطور خارج الزمن ومساره،والحدث كله لا وجود له خارج نطاقه(21)،أنه كما يرى فورستر الخيط أو السلك الذي تنتظم به البنية التعبيرية القصصية،وان الشاعر لايستطيع كتابة نصه من دون زمن ،لأن التتابع الزمني يتدخل في تنظيم اصغر وحدات الجملة(22).
فمن خلال الظرف الزمني (غدا) والفعلين المضارعين ( أمسك) و( أقود)، وهما لايدلان في هذا النص على الماضي أكثر من دلالتهما على المستقبل، نستشرف قيام مجموعة أفعال، ستقع في القريب العاجل أو القريب الآجل، وبما أن ( غدا) ظرف زمني مُنكّر فإنه يدل على المستقبل القريب.
ان الصورة الذهنية الاستعارية( أمسك غيمتك) دلالة على قدرة الشاعر على القبض على مستدرات الأيام الحبلى بالحوادث، كما أن جملة ( أقود سرب نجومها)، هي كناية عن انزياح ضمني في تشكيل مشهد عام للأفق الروحي ( غيوم ونجوم: هي فضاء ملون بلون قوس قزح رمادي يحوله الهيام الى الوان تشع بالعشق الأبدي
ان قدرة الشاعر على استشراف وقائع مبهمة وتحويلها الى كرنفال جمالي
بحاجة عالية الى تكوين صورة وصفية آهلة بالإنزياحات، تتحرك جيئة وذهابا في المسافة المائزة بين الجّلَد والجمال، والقصيدة برمتها تتشاكل فيها منظومة انزياحات تحيل المعنى الى المعنى المضاد من مجموعة من الاستعارات الذكية التي فوضها النص بتقديم شعرية قراءة، تشبه الى حدما تلك الشعرية التي نادى بها أدونيس، حيث دعى الى شعرية قراءة قال عنها:
((في ظني انها قضية اساسية ملحة،لا بكونها نوعا من نقد النقد وحسب،بل لأن للقراءةايضا جمالية خاصة تفقد حين تفقدها،جدواها وقيمتها ،ان قراءة النص الادبي تقتضي ادبية القراءة،وتلقي الجمال يفترض جمالية التلقي،او لنقل بعبارة ثانية،ان ادب الكاتب ،يوجب ادب القارىء))(23)
ان قصيدة الشاعر عبد الجبار الجبوري ((العَطَشُ لشفتيّكِ لايعْني البحثُ عن الماء) تحتاج الى قراءات متعددة واصغاء تقدي خاص،فلقدأبدع الشاعر الجبوري في قصيدته هذه التي اشتملت على مقومات القصيدة الدرامية الناجحة, وحققت انفتاح النص على تعدد القراءات, كما أن الشاعر له اشتغالات داخل اللغة بالغة الأهمية, إذا أستطاع أن يشق لنفسه طريقاً إبداعية متطورة ولغة هي لغته الخاصة, والمتتبع لشعره سيلاحظ العلاقات التي يقيمها بين ألفاظه, وهي علاقات تحتاج إلى الوقوف عندها ـ, أنها قصيدة صيغت بجمر الكلام وأضيفت إلى ابداع عبد الجبار الجبوري.
الهوامش والإحلات والمصادر والمراجع
(1)انظر كتابنا: العنونة وتمظهراتها في النص الأدبي الإبداعي العربي، ( بحث تنظيري في العنونة في الادب العربي)، قدم له :ا. د. محمد صابرعبيد،شركة الزوايا للدعاية والإعلان، ط 1، بغداد، 2019،:18
(2) . م.ن: 25
(3).العنوان في الادب العربي،محمد عويس،دار الهلال،القاهرة،1999،:84
4.دلائل الاعجاز،عبد القاهر الجرجاني،مطبعة احمد مصطفى،مصر ،ب ت:196
5.م.ن:1965.م.ن:197
6.البلاغة،عبد القادر القط،القاهرة،1974،:79
7. م.ن:80
8. أنظر كتابه:زمن الشعر،دار العودة،ط1،بيروت،1972:230
9.البلاغة والتطبيق،د.ناصرحلاوي وزملاؤه،وزارة التربية،بغداد،1991،:61
10.في معرفة النص،دراسات في النقد الادبي،د.يمنى العيد،دار الافاق الجديدة،ط1،بيروت،1983،:105** وانظر:أزمة القصيدة،د.عبد العزيز المقالح،دار الآداب ،بيروت ،1985،:85
11. خطاب الحكاية:بحث في المنهج،جيرار جينيت،ت:مجموعة من النقاد،المشروع القومي للترجمة،ط2 ـ 1997،:51
12م.ن:82
13.بنية الشكل الروائي،حسن بحراوي،المركز الثقافي العربي،بيروت،ط1 ـ1990،:132
14. تشظي الزمن في الرواية الحديثة،أمينة رشيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1988،:10
15.غائب طعمة فرمان روائيا،د.فاطمة عيسى جاسم،دار الشؤون الثقافية العامة،ط1،بغداد،2004 :139
16.بنية الرواية العربية السورية(1980 ـ 1990)،د.سمر روحي الفيصل،منشورات اتحاد الكتّاب العرب،دمشق،1995،:169
17.بنية الشكل الروائي،حسن بحراوي،المركز الثقافي العربي،بيروت،ط1 ـ1990،:133
18.غائب طعمة روائيا:139
19.بناء الرواية،سيزا القاسم،دار التنوير للطباعة والنشر،بيروت،1985،:61
20.الفضاء الروائي عند جبرا ابراهيم جبرا،د.ابراهيم جنداري،دار الشؤون الثقافية،بغداد،ط1 ـ2001،:25
21. القصيدة السير ذاتية واستراتيجية القراءة في الشعر الفلسطيني المعاصر،د.خليل شكري هياس،ب ت:298
22.أركان القصة،فورستر،ت:جمال عياد جواد،مراجعة:حسين محمد،دار الكرنك،القاهرة،ط1ـ1960،:53 ـ54
23. انظر:سياسة الشعر،دار الاداب،ط1،بيروت،1985،:49