حاوره جوان تتر
يبدو أن واقع المجلات العربية الثقافية بات مترديا جدا ، على الرغم من أن بعض المجلات الثقافية العربية أثبتت فعاليتها على مدار عقود ، ولكن يا تُرى في وقتنا الراهن، هل الحروب التي تعانيها المنطقة ، سبب ذلك ، مثلا ؟
أم أن هناك أسبابا أخرى؟
سنناقش هذا المحور بالإضافة إلى محاور أخرى ، مع ضيفنا الشاعر والناقد المغربي احمد الشيخاوي …
كنت بداية أودّ السؤال ، لم برأيك تشهد المجلات الثقافية تراجعا ؟ ما هي أسباب ذلك .؟
بداية ،أرحب بك زميلي جوان تتر وأشكرك على الاستضافة اللطيفة ، وآمل أن تكون هذه المقابلة مثمرة ومغذية للكثير من فضول من يهمهم الشأن الثقافي العربي ورهاناته ، خاصة وأنك أثرت نقطة من الحساسية والجدوى بمكان : واقع تقهقر أو تراجع المجلات الثقافية بين الأزمة والحلول .
جوابا عن سؤالك الجوهري الأول المرتبط بتراجع المجلات الثقافية ، أقول أنه وبصرف النظر عن الإنجازات العربية المعدودة والمتحققة هنا وهناك ، غير أن أزمتنا الثقافية عميقة وتحتاج إلى مقاربات جديدة ،من أجل تدارك ولمملة وإنقاذ ورعاية الذبالة المتبقية في هذا المضمار.
الخلل يكمن في تجاهل الوظيفة الثقافية في عالمنا العربي ، بحيث تم تجاوزها إلى قطاعات أخرى دعّمت وانفق عليها بسخاء وجود كبيرين ، كي تنتج لنا بالنهاية جيلا استهلاكيا ممسوخ الهوية ،تكابد لغته اللوثة والتدجين ، أي أنه وفي غمرة هذا الانفتاح الأعمى على الآخر ، أوروبا وأمريكا ،لم نحصد إلا استنساخ هوية هذا الآخر وضرب لغة الضاد في مكمن.
لدينا أفكار كثيرة لأسماء برزوا عالميا ،في الوقت الذي غبنتهم أو بخستهم أوطانهم ، حقهم وضلوعهم الفكري والمعرفي ، بما مفاده أن نواة البناء والنهضة في أي مجتمع إنما تنبثق من تعزيز الأدوار الثقافية وتأجيجها في حدود خلفية أدنى ما يتطلبه وجود الكائن ، وأعني بذلك ثالوث الحرية / الكرامة / العدالة الاجتماعية ، لأن هذه العناصر متى روعيت بل وقدّست سهلت الكثير وخلقت المنافذ إلى الاستقرار والتوازنات المنشودة.
ومتى انتهكت جلبت الدمار والتهلكة والدموية والفوضى للكائن والعالم .
في الأساس ، إن بناء الإنسان هو ما يهم في أي فعل ثقافي أو غيره ، وهذا ما يسمى الاستثمار في الرأس مال البشري ، لكننا ومع كامل الأسف غطينا عن هذه الحقيقة وتخطينا خيار المراهنة على آفاقها بمعطيات الإيديولوجي والديني ،تعتيما على الثقافي وإقصاء له ، ما نجم عنه مثل هذا الشذوذ .
وأي مجلة ثقافية سواء في شقها الرقمي أم المطبوع ، استطاعت أن تصل إلى قلوب وعقول الجماهير ، فإنما ذلك بفضل الإرادة الفولاذية التي يمتلكها أصحابها ، وبفعل غيرتهم على هويتهم ولغتهم ، باعتبار الجهات الرسمية ، إنما تعتبر مثل هذه المبادرات التنويرية والتثقيفية ، تحديا للتوجهات السياسية أو الدينية السارية ، وهذا فهم مغلوط بكل تأكيد ، لأن العلم نور ولا يمكن لمريديه القبول بغير لغة الضمير وصوت العقل ، فهم بذلك ينبذون كافة أشكال التطرف والإرهاب والظلاميات ، في حين الجهل هو ما تتخبط شعوبنا فيه محاولة ادعاء الحضارة والنهل من الروح التقدمية لأمريكا والغرب .
أسباب تراجع المجلات العربية ، جمة ومتداخلة ، ولعل أبرزها الجانب الاقتصادي كما ذكرتم ،بالإضافة إلى واقع هيمنة الإيديولوجي والرسميات التي ما تفتأ تصادر كل عمل رصين جاد ، وكأنها ترى فيه تمردا وثورة وانقلابا ، فتشدد عليه الخناق وتحاربه بكل الأساليب ، بينما تشجع ما يحقق لها سكرة ودوخة الشعوب ،وإن كان الجهل هو الأداة الأولى للهدم ، كما أسلفنا .
علاوة على الهيمنة الرقمية في أبعادها السلبية التي تتخذ المستخدم العربي المفتقر في الأصل لثقافة بتاريخه وهويته وانتمائه ، تتخذه طعما لمآرب خسيسة ترعى المصالح الرسمية وتنتصر لخطاباتها .
أنت كمسؤول عن مجلة ثقافية، ما هي المواضيع المنشرة في أكثر المجلات الثقافية القليلة في وقتنا الراهن ، وهل تواكب المتغيرات في المنطقة بأكملها أم لا ؟
أي مجلة تتعمد أو تعجز عن مواكبة روح العصر ،ومراعاة حاجيات هذا الجيل الذي تبدل بالكامل ، ستؤول بلا شك إلى الفشل والزوال .
للأسف هناك تنافس كبير سواء في المحتوى أو الأقنعة الفنية ،من قبل مجلات يحركها الجشع والربح لا أكثر ، وتزاحم على ما تتوقف عليه الموجة الشبابية وتعزف إيقاعاته ، فلا تقدم سوى ما يرضي النزوات وينفس عن الكبت ،مجلات الموضة والطبخ كثير من المجلات الفنية ، بدل أن تغذي القلوب والعقول على حد سواء ، وتوجه أيضا ، لأن هذا الجيل وفي مثل هذه الأعمار لهو في أمس الحاجة إلى من يرفع عنها خجل مجابهة التابوهات السياسية والدينية، إلى عمق ما يخول لها استيعاب الهوية والتاريخ واستقراء تحديات الآني بشكل جريء وصحيح لا غبار عليه .
وإلا فإن القادم سيكون أسوأ ، وباعث على مزيد من الدمار والتطرف والإرهاب بمختلف تجلياته.
حسب تجربتي الإعلامية المتواضعة وعلى الرغم من حداثة عهدها ، فقد جعلتني أكتشف خبايا عديدة ،في صلبها إشكالات الدعم المادي ، بما يمنح الثقة والأريحية أن تمّة ولو جهة معينة، يعنيها مستقبل لغة الضاد وما فيه خلاص الهوية إجمالا.
إن ما أخفقنا فيه لحد الآن ، هو بناء مجتمع قارئ ، وهي لعمري غاية أسمى ، لا يمكن أن تتحقق إلا بتضافر الجهود وترك الأنانيات الاقتصادية والسياسية ، فكل ما استطاع إنجابه إعلامنا العربي على تنوع عناوينه ومضامينه ، هو إنجاب بورجوازية هجينة ومستعبدة تتقاذفها إما الفرنكوفونية لدى المغاربة أو الاستغراب و” التأمرك ” لدى المشارقة . ومن هنا تتفتق الأزمة الثقافية ، ويجب الالتفات إلى بؤرها السرطانية التي ابتلعت الجيل الذي يمكن للهوية واللغة الاعتماد عليه في خلاصهما وتحريرهما ومنحهما لبوس التبرعم والازدهار.
يعزو الكثير افتقاد المجلات العربية إلى الدعم المالي ، وما تعانيه المنطقة من حروب ، برأيكم هل هذا السبب مقنع ، وكيف ؟
كما قلت لك ،كلما ذكرته أنت إنما هو ناجم عن سياسة التجهيل التي تتم حمايتها والترويج لها ، على نحو موح بالعمالة والخيانات الوطنية الكبرى وتمجيد الأنانيات والمصالح الاقتصادية .
فيما العلم والثقافة الجادة والملتزمة قادران على بناء الإنسان السوي والناضج والواعي بأزمته ،من دون شك .
الإنسان المسؤول العارف بما له وما عليه ، والذي يختزل كامل هواجسه في المنطقة أو المنزلة البينية ، ما بين الحق والواجب .
الحروب ما هي إلا ثمرة مرة للتعتيم على الدور الثقافي وازدراء سدنته وتجاهل مشاريعهم الإنسانية الطموحة والمشروعة والبريئة .
ما الذي فعله التطرف والحروب بشكل عام في الوضع الثقافي ، وما هي سبل القضاء على ذلك ، أو على الأقل مواجهتها بالفعل الثقافي ..؟
هي معادلة صعبة ، والتأثير داخل دهاليزها متبادل ، فمثلما أثر التطرف والحروب في الثقافة ، نجدها وقد أثرت في مجرياته هي الأخرى ، يكفي أن اذكر على سبيل المثال لا الحصر ، بعض الموجات أو التيارات الثقافية الجديدة ، التي أستطيع القول أنها أرّخت للمرحلة وكتبتها بدم ، كالميليشيا الثقافية في العراق ، بعدها صوتا آخر مناهضا للرجعيات والتحجر العقلي ، داعيا غلى تحرير العقل واللغة وتعزيز الثقافة الانقلابية البانية والمزهوة ببناء الشخصية والهوية العربية في ملامحها المستقلة عن تاريخ التبعيات و الانفتاح الأعمى والاستنساخ والاجترار .
في اعتقادي ، مثل هذا الموجات والتيارات يجدر دعمها ماديا ومعنويا ، لأنها تمثل الوجه المشرقة لثقافتنا العربية النازفة لتناوبات التطرف وحروب الإبادة .
كيف يمكن تخليق الدور الثقافي في المنطقة برمتها ؟
في كلمة أخيرة ، أقول إن تخليق الدور الثقافي ، لا يتم إلا عن طريق رفه هيمنة الديني والإيديولوجي ، بما يحقق وينتج جيلا قارئا معتزّا بهويته ولغته التي ما خانته ولن تخونه يوما ، كون العيب في الأجيال المتعاقبة ، وقد فرّطت في المشعل الحضاري والمعرفي والثقافي الذي رسمت بعضا منه الأمم السابقة .