الساعة السادسة صباحا، ما يزال الظلام مخيما على المدينة الوحش. أقف على حافة الرصيف متمايلا كطفل متشوق للسفر، أقف هنا منذ عشرين سنة، قد أكون وقفت لتوي، لكن جبروت العادة وأوهام اللاشعور تفرض سلطانها.
من بعيد يتراءى لي ضوء الحافلة المميز، كانت تقترب شيئا فشيئا، فيتضح الرقم الموضوع على الجانب الآخر لقمرة القيادة:
ــــ 143.. إنها حافلتي!
ألملم عظامي، أربط خيوط حذائي وأستعد للمعركة، تتوقف أخيرا مصدرة صوتا كذلك الذي يحدثه القطار، أجدني داخلها، لا مكان شاغر. ورغم أنها كانت وما تزال وسيلة نقلي الوحيدة منذ كل هذه الأعوام؛ فإن المرات التي حظيت فيها بمقعد تكاد تكون معدودة على رؤوس أصابع.
أفتش عن مكان أقف فيه، أحشرني بين الأجساد، أدفع هذا، يدفعني الآخر، أخيرا أجد نصف مكان، أضع محفظتي بين قدمي، وأشنق يدي بحبل متدل من سقف الحافلة.
كان على أن أزجي بعض الوقت في شيء ما، لهذا شرعت أتفرس في الوجوه الكئيبة المشوشة، رجال ونساء شاخوا مكرهين، كأنهم حُمِّلُوا هموم العالم على أكتافهم. أتذكر أن علي العودة من عملي لأمضي بقية اليوم رفقة ابني الطريح الفراش منذ أسابيع، كلمات زوجتي هذا الصباح تتردد لتؤرقني:
ــــ علينا أن نستدين هذا الشهر أيضا..! مصروف البيت انتهى رغم كل التدبير!
تدمع عيني من حيث لا أدري، تتداعى معها رجلي اليسرى هي الأخرى، أحاول أن أستند إلى اليمنى، متناسيا أن أحد أصابعها بثر جراء السكري، أحبط أكثر عندما أدرك أني مجبر على التكيف لساعة ونصف أخرى على متن هذه الحافلة.
توقفات هذه الحافلة لا تنتهي، لا توشك أن تنطلق حتى تتوقف من جديد، إنها الحافلة الوحيدة التي تقطع هذه المسافة الطويلة، لتربط بين رقعة جغرافية تقدر بعشرات الكيلومترات، خط مرورها يشمل أحياء غائصة في التهميش وأخرى ميسور أهلها، ركابها كالمسافرين قد يتسمرون فيها لما يفوق الساعتين، لهذا كان مرتادوها كثرا: الباعة، المتسولون، وطبعا اللصوص.
تصعد عجوز بدت لي مألوفة بظهرها المقوس، وعكازها الخشبي، وجلبابها المزركش بالرقع، تشرع في الاستجداء بعد أن تحكي تلك القصة التي سمعتها منذ خمسة عشر عاما، هكذا تهيأ لي:
ــــ ارحموا عجوزا توفي زوجها وتخلى عنها الأبناء، تكتري بيتا، وتعاني أمراضا مزمنة.. رحم الله أباءكم وأصلح أبناءكم، لن تضيع صدقتكم إن شاء الله..
ــــ آمين.. خَرَجَتْ من فمي دون أن أدري، لكن لم يكن في جيبي غير ثمن التنقل إيابا.. كلماتها قَلَّبَتْ عليَّ المواجع من جديد.. وذكرتني بهذا الجيل الثائر على كل شيء، حتى على مصالحهم. ترتسم أمامي أربعة فصول دراسية قد ضم كل واحد خمسين متعلما، لا تكف أفواههم عن الصراخ وأيديهم عن العراك، لا يبالون بشيء ولا يهابون شيئا، فمدرسة النجاح تضمن نجاح الجميع! مديرها يبيع ويشتري في كل شيء! تتهادي إلى تفكيري جملته المعهودة متهكما على أوضاع رجال التعليم:
ــــ سيأتي يوم، وأظنه قريبا! يوم سيجلس فيه المعلم على الرصيف منتظرا مشغلا، كما يتنظر البناء والرصاص والنجار..!
أَوْقَفَ شرودي صوتٌ متحسرٌ قادم من مقدمة الحافلة، شاب يتوسل الركاب لجمع ثمن تذكرة تعيده إلى مدينته، مخرجا من جيبه ورقة تثبت خروجه من السجن للتو، لكنه ما لبت أن غير لهجة التفجع إلى الوعيد:
ــــ ما أقسى قلوبكم! لا تخرجون دراهمكم إلا بالتهديد! أنتم لا تشجعون غير اللصوص!
وسار مكشرا، يروح ويجيء في الممر بمرونة، وساعده في ذلك تسامح الواقفين، وطبعا تحركت عواطف الركاب، وبدوا أكثر سخاء وكرما..
ازدادت قدماي أَلمَاً حتى تجمدتا وتنملتا، وانتابني شعور بالغثيان، أحسست بأن أنفاسي تتسارع.. وروحي تكاد تزهق، فقررت النزول، غير أن صوتا مهيبا تفجر من داخلي مستنكرا:
ــــ هل جننت..؟! وماذا عن العمل! طفلك المريض! قرضك السكني والاستهلاكي!
أجبته بشجاعة اللحظة مخرسا إياه:
ــــ تبا لهم..! تبا لك وللعالم!
أقصد الباب الخلفي، يضيع حذائي في الزحمة، أستسلم وأتركه لمصيره المجهول بعد أن عجزت عن استعادته، أجدني على بعد مترين من الباب، كان قد استعمره شابان طويلان عريضان، أحدهما ينظر إلي الآن، يدعوني للنزول بعد أن علم طويتي ونادى السائق:
ــــ البَابْ أَجَوَااااادْ!!
كان علي أن أمر وسطهما، بادلاني بعناق المتحابين بعد فراق طويل! لفظتني الحافلة أخيرا، أحد الشابين يطل برأسه من باب الحافلة وهو يبتسم بخبث، الثاني يحذو حذوه، بدا ساخطا قبل أن يرمي محفظة نقود باتجاهي، وبحركة خطافية تيقنت من أن جيبي لا تحتوي إلا على الفراغ، فأيقنت بعد ذلك أنها محفظتي، وأنهم لم يجدوا فيها شيئا، العشرة دراهم الخاصة بمواصلات الإياب ما تزال هنا. ليس في هذه المحفظة إلا بطاقات لا تنفع في شيء؛ واحدة للأعمال الاجتماعية، أضعها هنا منذ ثلاثين سنة دون أن أستفيد من أي خدمة اجتماعية، الثانية للمصرف أستخدمها مرة واحدة كل شهر، لأن حسابي يصير متصحرا من الدراهم. كانت هناك بطاقات أخرى؛ بطاقة تعريف، ورخصة سياقة دون امتلاك سيارة..!
أرمق حافلتي وهي تتململ بصعوبة مخلفة وراءها سحابة دخان كثيفة، أكتشف موقعي، كنت أقف أمام إحدى حدائق الحي الحسني المهملة، أقصد شجرة سنديان باسقة، أجعل من محفظة أدواتي وسادة، لأغط بعدها في نوم عميق..