إستيقظت والدتي مفزوعة مذعورة .. منتفضة من هدوئها وسكونها الليلي .. منزعجة من أمر فاجأها على حين غرة . لتتأكد بعد ذهاب روعها ، أنها استفاقت من نومها جراء حلم مزعج أربكها وقض مضجعها .. فجلست على حافة السرير تحوقل وتستغفر الله وتحمده ، وتعوذ به من الشيطان الرجيم .. وهي تفكر في حلمها بكل جدية ، وتسترجع كل مشاهده بدقة وحذر ..
تحرك الوالد في مرقده بجانبها إثر الجلبة التي أحدثتها بعد استيقاظها .. وهو يفتح عينيه ببطء ليستطلع ما يقع ..
- ما بك الحاجة ؟
- هل هناك خطب ما ؟
- ياك لابأس ؟
لم تجبه الوالدة بل إستمرت تحوقل وتهلل وتلعن الشيطان الرجيم ، وهي تصدر لوالدي أمرا بالسكوت والرجوع إلى نومه ، مشيرة بيدها وبكلمات وأصوات تسمع بالكاد .. - أسس .. سكت الحاج سكت !
ثم أطفأت النور ، وعادت إلى مضجعها مستلقية على شقها الأيمن ، وهي ماضية في ترديد نفس الإبتهالات ..
ونحن مجتمعون حول مائدة الفطور ، أعاد الوالد طرح أسئلته ليتأكد من حقيقة حادث الليل ، ويستل من الوالدة بطريقته الخاصة ، الأسباب التي جعلتها تجزع من نومها ..
ظلت صامتة تنظر إليه ، ترشف رشفات من كأس الشاي المنعنع الذي تتفنن في تهييئه كل صباح لتثري به مائدة الفطور ، وهي توميء له بالإستمرار في الأكل والكف عن طرح الأسئلة ..
لم يعلق على سلوكها ولا على حركاتها . فهو يعلم أنها ستنبئه بفحوى ما حدث ولو بعد حين ..
لما هم بالخروج .. نادت عليه وأشارت إليه بالجلوس بجانبها حتى تفشي له سرها ، وهي مقتنعة من أنه لن يرفض لها طلبها .. هكذا دأبهما معا طيلة السنوات الطويلة التي جمعتهما تحت سقف هذا البيت المبارك .. - أجي . رجع الحاج لأخبرك بأمر مهم ..
- الله يسمعنا خير .. ماذا هناك ؟
يستفسرها وكله آذان صاغية .. - البارحة ياسيدي وأنا غارقة في نومي ، رأيت في منامي .. خير وسلام .. الولي الصالح سيدي فلان .. بلباس طويل ومنسدل نقي وناصع البياض ، ولحية طويلة وبيضاء هي الأخرى . ويشع من محياه نور أضاء كل أرجاء الغرفة .. وبابتسامة مطمئنة ناداني بإسمي ..
ثم قال لي .. - لماذا تأخرت في زيارتي .. وأنا أنتظر هديتك بفارغ الصبر ؟
- هممت بالإجابة فلم أستطع .. كأن لساني أنعقد وهجرني الكلام .. وبيده اليمنى أشار إلي أن أظل صامتة وأصغي لكلامه ..
- ثم ماذا بعد .. ؟
يسأل أبي وقد عدل من جلسته واتسعت عيناه أكثر وهو ينتظر المزيد من التوضيحات .. حول رؤيا الوالدة .. - أشار إلي أن تكون هديته جديا أقرعا (بدون قرون ) أسود اللون تتخلله شعيرات بيضاء تجعله متميزا يسر الناظرين ..
ثم أضاف .. - ستعرفينه بسهولة من بين بني جنسه ، وسيكون سهل الإنقياد ..ثم اختفى فجأة ..
- إستيقظت وفرائصي ترتعد وخفقان قلبي تتزايد قوة دقاته حتى كدت أتخيله يغادر قفص صدري ..
تملكني رعب شديد وجلست أبتهل للعلي القدير أن يجعل في الأمر خيرا .. - خير وسلام إن شاء الله .. سنلبي الطلب وبأسرع وقت ممكن .. ما يكون غير خاطرو .. وخاطرك الحاجة .
يجيبها الوالد وكله عزم على قضاء فحوى الرؤيا .. - الله ينفعنا ببركتو ..
تختم الوالدة حديثها .
تهيأنا وبعزم قوي لزيارة الولي الصالح سيدي فلان في الساعات الأولى من صباح يوم الخميس . وهو اليوم المفضل لزيارة هذا الولي . لا أدري لماذا أختير هذا اليوم بالذات ، وأجمع زوار الولي سيدي فلان منذ زمن بعيد ، على أن يكون هذا اليوم دون غيره من بين أيام الأسبوع كلها هو يوم بداية الزيارة الكبرى . ربما لرمزية إرتباطه بيوم الجمعة ومجاورته له في توالي أيام الأسبوع ..
لا زالت الشمس لم تسخن الأجواء والأماكن بعد ، فهي بالكاد بدأت تظهر من أفق مشرقها ، ولكن بدأنا نحس بإشاراتها الأولى وهي ترسل خيوط أشعتها الدافئة على فضاءات البلدة ..
إنطلقت رحلتنا بكل حزم وإصرار إلى ضريح الولي المقيم في أعالي جبال البلدة ، والذي يبعد عن منزلنا بحوالي ستة كيلومترات ، سنقطعها مشيا على الأقدام ..
لقد تحملت مسؤولية قيادة الجدي الذي بدأت أحس بقربه مني ، وأستأنس به ، بل وبدأت تلوح بيني وبينه علامات التواصل والتفاهم خاصة حينما أنظر إلى عينيه المدورتين الجميلتين ، وهو يبادلني نفس النظرة .. فعلا لقد كان سهل الإنقياد ولم يحرن ولم يكن مشاكسا أو مقاوما .. فقد كان ذلولا إلى أبعد حد . مما زاد من حماستي في إقتياده إلى حتفه .
لم أنزعج من طول المسافة ولا من العنت في الوصول ، بالرغم من أن حر الصيف بدأ يغزو تدريجيا البلدة .. إنما أعجبت بالرحلة وبأجوائها .. أسرح بناظري في فضاءات البادية الممتدة بمنخفضاتها وتلالها ، وآثار الصيف بادية عليها من خلال ألوان الحصائد وأشكال البيادر .. ونحن نصعد السفوح تدريجيا عبر الطريق الملتوي وننزل إلى عمق الأودية ، وأريج الغابة المتنوعة النباتات والأشجار يملأ الأجواء من حولنا ، ويعطرها بأزكى ماتجود به أشجار العرعار والضرو والبلوط الأخضر وغيرها من النباتات . فتزيد رغبتي في السير ، واكتشاف تضاريس البلدة أكثر ..
لم نتحدث كثيرا خلال سيرنا ، ربما احتراما لسكون الطبيعة من حولنا ، او أن الكلام قد ينهك جهودنا ويجعلنا نتعب في السير . إنما كانت الوالدة تذكرنا بين الفينة والأخرى ، بأماكن بعض الأولياء حينما نمر بالقرب من أضرحتهم المتواضعة ، والتي طال أغلبها النسيان والخراب .. فتبدأ في النطق ببعض الدعوات والإبتهالات والأذكار التي تحفظ ، للتواصل مع الأضرحة وأوليائها المفترضين .. وأنا أمسك بحبل قيادة الجدي الذي يسير بجانبي كالصديق الحميم .. يقف حين نتوقف للإستراحة ، ويستأنف السير بنفس الوتيرة التي نحن عليها .. مطاوعا هادئا . أتذكر أننا جلسنا في ظلال أشجار الغابة الوارفة عند واد تجري مياهه الباردة زلالا ، في منتصف الطريق إلى ضريحنا .. ارتوينا وارتوى الجدي ، ورطبنا أطرافنا ووجوهنا بعدما لفحتنا حرارة الشمس التي بدأت تشتد مع توالي ساعات النهار .. ونحن نستعد لمواجهة المرحلة الأخيرة من الرحلة ..
وصلنا إلى ضريح سيدي فلان قبل صلاة الظهر بساعة ونصف تقريبا .. بناية قديمة متٱكلة في مظهرها عموما ، مربعة الشكل لا يتجاوز علوها الثلاثة أمتار .. تظهر على سطحها قبة دائرية تنتهي ببعض الكرات النحاسية الصدئة والمرتبة عموديا ، وتتدرج في الحجم لتنتهي بهلال ونجمة في الأعلى ..
بابه ذو اللون الأخضر الغامق مفتوح للزوار .. يجتمع قربه الفقهاء ونقباء الأسر التي تشرف على الضريح ، وتعيش من العطايا والهبات التي ينذرها الزوار والمريدون للولي سيدي فلان . يجلسون فوق مصطبة ضيقة شيئا ما ، مغطات بقطع الحصير أغلبها بالية ، تشرف عل درج طيني ذهبت معظم أجزائه ، ليفتح المجال لطريق مترب ينزل إلى عين . وهي نبع صغير يصب في صهريج طيني كذلك ، لم تطله يد الإصلاح ربما منذ زمن بعيد .. فجل حواشيه مهدمة . يغترف منه الزوار حاجياتهم من الماء . على بعد مسافة عشرين متر تقريبا تتموضع المنازل الطينية المتواضعة للسكان المجاورين للضريح ..
بمجرد ما وطأت أقدامنا المكان القريب من المصطبة حتى بادرنا شخص بالترحيب والتكبير .. تبدو عليه آثار الفقر من هندامه ورزته المخضبة ببعض بقع التراب المحلي ، حافي القدمين وحليق اللحية والرأس .. علمت من أبي فيما بعد أنه مقدم الضريح .. فهو الشخص الذي يتسلم الهدايا والهبات والنذر . ويعلنها للجماعة الجالسة على هذه المصطبة ويكشف عن أسماء أصحابها ، ليصدح الجميع بالتكبير والتهليل والصلاة على النبي العدنان .. والدعاء لصاحب الهدية ..
سلمت المقدم حبل قيادة الجدي الذي رافقنا بكل هدوء وسكينة ، وأنا أشيعه بناظري حتى توارى خلف سور الضريح .. أصابني نوع من الذهول والإنقباض ، وأحسست أن ريقي بدأ ينشف ويصعب معه التنفس .. وأنا أودع رفيقي الجدي الوديع ، الذي لم يدم مكوثه معنا طويلا .. إنما شعرت بلوعة فراقه حين ذهابه إلى حتفه …
بعدما استرحنا قليلا على طرف المصطبة ، ونحن نستمع إلى “الفقهة “وهم يقرؤون ماتيسر من كتاب الله ويبتهلون بدعوات لصالحنا ، لم أتمكن من استبيانها لشدة صراخهم بها وإتباعهم طريقة خاصة بهم في نطقها .. أشارت إلي أمي أن ندخل إلى الضريح لزيارته والتبرك بأعتابه .. قاعة مربعة الشكل يتوسطها قبر الولي مغطى بصندوق خشبي يعلو بحوالي المتر ونصف عن أرضية الغرفة . مقبب الشكل ومدثر بثوب أخضر يغطي كل أجزائه .. تشرف عليه مباشره تجويفة قبة الضريح التي تزين السقف .. تعلو جدران الضريح بمحاذاة السقف فتحات طولية ضيقة تفسح المجال لدخول الضوء والهواء إلى داخل صالة الضريح .. لا زالت أثار الزخرفة الأصلية بادية في كثير من جوانب البناية خاصة في تجويفة القبة والزوايا وأعلى الفتحات .. إنما توالي عملية طلاء الغرفة مع الزمن ورداءة الطلاء ، طمس معالم هذه الزخرفة التي افتقدت رونقها ، وأضحى منظر البناية كئيبا من الداخل والخارج على السواء ..
لما دخلنا أنا ووالدتي ، ألفينا عددا من النسوة في وضعيات مختلفة .. منهن من تطوف بالصندوق أو الضربوز كما يدعى .. وأخرى تضع جبهتها ملتصقة على أحد أركانه ، بعدما دخلت في ترديد سلسلة من الدعوات والرغبات بصوت خافت ممزوج بأنين ، تضعها بين يدي الولي أملا في قضائها .. في الجهة المقابلة تكورت بعض النسوة مضجعات على بساط مترهل من الحصير وهن يئن ويرددن طلباتهن ورغباتهن ..
بعدما قبلت والدتي أركان الضربوز طبقا لمراسيم زيارة الأضرحة عموما ، وهي تردد تلك الدعوات والمطالب التي جاءت من أجلها .. أدخلت يدها في حفرة صغيرة عند زاوية من زواياه ، فأخرجت منها حفنة من التراب ، وطفقت تمسح به على وجهها وأطرافها وأجزاء من جسمها . ثم أشارت إلي أن أقترب منها لتمسح على رأسي الحليق وعنقني وصدري ببعض القبسات من هذا التراب لتعم بركة سيدي فلان عقلي وجسمي . لم أمانع في التبرك بتربة الولي ولم أرفض رغبة أمي ..
بعد إنهاء طقوس زيارة قبر الولي .. إنتقلنا نحن الثلاثة إلى فضاء آخر له رمزيته ودلالاته في ارتباطه بزيارة هذا الولي صاحب البركات والإكرامات المتنوعة .. والمسماة .. مراغت السبع .. الفضاء الذي كان يجثم فيه أسد الولي الذي رافقه طيلة حياته ، والذي كان سنده وعونه ، يعتمد عليه في عمله الفلاحي على الخصوص ، إلى جانب حيوانات أخرى وزواحف . حسب ما حكى لنا مقدم الضريح وبعض المرافقين للزوار من أهل وسلالة الولي .
الفضاء عبارة عن صخرة منبسطة شيئا ما ، مائلة قليلا في جزئها المواجه للضريح .. حيث تعلق الزائرات في أغصان الأشجار المحادية للمراغة ، أجزاء من ملابسهن الداخلية ، وبعض خصلات شعرهن وقطع من الأثواب ، لجلب الحظ والسعد وتيسير قضاء الحاجات التي استعصت على التحقق في العادي من الأيام .. أو كما يروي ذلك المقدم ..
لم يطل مقامنا في ضريح الولي سيدي فلان .. زهاء الثلاث ساعات أو أكثر بقليل .. ثم عدنا أدراجنا في رحلة العودة الطويلة ..
لقد كانت هذه الرحلة أول وآخر زيارة لنا نقوم بها إلى ضريح هذا الولي الجاثم فوق سفوح جبال بلدتنا .