حسن لمين| المغرب
يشهد تاريخ الأدب المغربي الحديث نقاشًا ساخنًا حول هوية أول رواية مغربية حقيقية، حيث تتباين آراء النقاد حول العمل الذي يستحق نيل هذا اللقب.
يُرشّح البعض رواية “الزاوية” للتهامي الوزاني، المنشورة عام 1942، كأول رواية مغربية، وذلك لما تقدمه من حكاية متماسكة تدور أحداثها في زاوية دينية خلال فترة الاستعمار الفرنسي، وتُسلّط الضوء على التغيرات الاجتماعية والثقافية التي طالت المجتمع المغربي آنذاك. بينما يرى آخرون أن رواية “في الطفولة” لعبد المجيد بن جلون، الصادرة عام 1957، هي صاحبة السبق، وذلك لأسلوبها الروائي الحديث وتقنياتها السردية المبتكرة، حيث تُجسّد سيرة ذاتية للكاتب تتناول طفولته في مدينة “مانشيستير” بإنجلترا، وتُقدم لمحات عن الحياة المغربية في تلك الحقبة. ويدخل في هذا الصراع على لقب “أول رواية مغربية” عمل ثالث هو رواية “دفنا الماضي” لعبد الكريم غلاب، المنشورة عام 1966، حيث يرى بعض النقاد أن هذه الرواية هي أول نص روائي مغربي يتوافق مع المعايير الفنية للرواية الأوروبية، من حيث بنيتها المحكمة، وتعدد الشخصيات، وعمق طرحها للقضايا الاجتماعية والسياسية.
وأيا كانت هي الرواية الأقرب إلى فنية السرد الروائي، فإن ستينيات وسبعينيات القرن الماضي عرفت ظهور نصوص روائية مهمة، تناولت الواقع المغربي بعد الاستقلال ، وأبرزت بالتالي رغبة وطموح الكتاب المغاربة إلى التعبيرعن مجتمع بأكمله، ومحاولة استكناه الأسس الجوهرية التي تتحكم في تشابكاته وتطوراته.
يرتبط ظهور الرواية ارتباطًا وثيقًا بتطور المجتمعات وتغيراتها، ويرى العديد من النقاد أن هذا النوع الأدبي يُمثّل تعبيرًا عن قوات وعلاقات تسود الساحة الاجتماعية. وانطلاقًا من هذا المنظور، سعى البحث النقدي إلى تحديد الطبقة الاجتماعية التي عبّرت الرواية عن تصوراتها واستمدت منها مادتها. في هذا السياق، برز ربط وثيق بين نشوء الرواية والطبقة البرجوازية، حيث اعتبر النقاد أنّ الرواية نشأت أساسًا للتعبير عن وعي هذه الطبقة ومصالحها وتطلّعاتها.
شهدت الروايات المغربية الأولى التي ظهرت في أواخر الستينيات من القرن العشرين تنوعًا في المضامين ووجهات النظر، ممّا دفع بالنقاد إلى التفريق بين الأعمال الروائية من حيث تعبيرها عن وعي فئة أو أخرى داخل الطبقة البرجوازية. فبينما عبّرت بعض الروايات عن واقع وتصورات الطبقة البرجوازية المهيمنة التي اكتسحت مواقع السلطة والامتيازات بعد استقلال المغرب، اتّجهت روايات أخرى إلى إعطاء صوت لفئات أخرى داخل هذه الطبقة، مثل الطبقة البرجوازية الصغيرة والطبقة البرجوازية المثقفة. ومع ازدهار الرواية المغربية في أواخر الستينيات من القرن العشرين، برز دور الطبقة المتوسطة كقوة فاعلة في الحركة الثقافية. واحتلت هذه الطبقة، بحكم تفوقها المادي والاقتصادي، المواقع الأمامية في المشهد الروائي.
لقد ارتبط نشوء الواقع الروائي في المغرب ارتباطًا وثيقًا بالطبقة البورجوازية، وخاصةً فئة المثقفين منها. فقد رأى العديد من النقاد أن هموم المثقف البورجوازي الصغير شكلت محور أغلب الأعمال الروائية خلال تلك الفترة. وتجلى ذلك في محتوى النصوص النقدية التطبيقية التي تناولت الروايات المغربية. حيث اعتبر النقاد أن الذّهنية الطبقية التي كوّنها المثقف البورجوازي الصغير عن ظروفه المادية وممارساته الاجتماعية انعكست على المضامين الروائية. فقد عبّرت الروايات عن البحث عن معنى الوجود والقضايا التي شغلت هذه الفئة، مثل التطلعات والأوضاع والحياة.
ويُمكن تفسير هذا الترابط بين الواقع الروائي والطبقة البورجوازية الصغيرة بعدة عوامل:
أ- هيمنة الطبقة البورجوازية: احتلت الطبقة البورجوازية، وبخاصةً فئة المثقفين منها، موقعًا هامًا في المجتمع المغربي خلال تلك الفترة.
ب- التعليم: تمتع أفراد الطبقة البورجوازية بمستوى تعليمي عالٍ، ممّا مكّنهم من الكتابة والنشر والوصول إلى وسائل الإعلام.
ج- الاهتمامات الثقافية: اتّسمت الطبقة البورجوازية باهتمامها بالثقافة والفنون. ممّا دفعها إلى الكتابة والمشاركة في الفعاليات الثقافية.
وقد أسفرت هذه العوامل عن النتائج التالية:
أ- انعكست رؤية المثقف البورجوازي الصغير على المضامين الروائية.
ب- عبّرت الروايات عن قضايا هذه الفئة وطموحاتها وآمالها.
ج- شكلت الروايات أداة فعّالة لفهم التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي مرّبها المجتمع المغربي خلال تلك الفترة.
مع ازدهار الرواية المغربية في السبعينيات، كان من الطبيعي أن تستأثر مسألة نشأتها باهتمام النقاد. ففي ذلك الوقت، كان الإنتاج الروائي المنتظم حديث عهد بالساحة الأدبية المغربية. وقد اتّخذ البحث النقدي في هذا المجال طابعًا تاريخيًا بشكل عام، وركز النقاد على العوامل الموضوعية التي شكلت خلفية حتمية للإنتاج الأدبي بأكمله في مرحلة الستينيات، وليس الرواية فقط.
ورغم طرح النقاد لقضايا مهمة، إلا أنه لم يُسلط الضوء بشكل كافٍ على السمات المميزة للرواية كشكل أدبي فريد، من حيث نشأتها وتطورها، وسعياً لمعالجة هذا النقص، قدم بعض النقاد المغاربة دراسات عميقة ركزت على التحليل الاجتماعي لظهور الرواية.
وفي هذا الإطار تناول أحد النقاد تاريخ الرواية الأوروبية، ونظريات ربط صعودها بالبرجوازية الغربية، مستنتجًا ضرورة ظهور الرواية العربية بالمفهوم والشكل الغربيين، بدءًا من أواخر القرن الثامن عشر، انطلاقًا من تقييم موضوعي للواقع والقوى الاجتماعية. إلا أنه لم ينظر في الفروق التاريخية والثقافية بين الواقعين الأوروبي والمغربي.
وباستثناء بعض الدراسات التي تناولت الظروف التاريخية الأوروبية التي أنجبت الرواية وطرحت تساؤلات حول إمكانية تطبيقها في العالم العربي، إلا أن معظم الكتابات النقدية لم تركزعلى نوعية التأثيرات الثقافية، العربية أو الأجنبية، التي ساهمت في ظهور الرواية العربية وتطورها.
وقد اقتصرت معالجة هذا الجانب على إشارات مقتضبة، مثل قول أحد النقاد بأن الرواية العربية نشأت عن احتكاكنا بالحضارة الغربية وانفتاحنا على أدبها من خلال اللغة والفكر الاستعماريين، ثم من خلال اللغة العربية وتواصلنا مع الشرق العربي وتراثه الأدبي.