“العجوز” شالوم عليخم – تر. سامح سعودي سيد /مصر

ذات مرة دقت الساعة المعلقة أعلى الجدار في منزل والدي الثالثة عشر. نعم أيها الأولاد الصغار أني أقول لكم الثالثة عشر وليس بكلامي أي خطأ أو سخرية حاشا لله بل حقا هذا ما حدث. فالساعة التي كانت معلقة أعلى الجدار الخاص بمنزل والدي، والتي سمعتها تدق الثالثة عشر، كانت قديمة جدا. ورثناها من أجدادنا، ولهذا كانوا يدعونه ” العجوز “. كان العجوز يخبرنا الساعات والدقائق والثواني بدقة كبيرة، لذلك كان يأتي أبناء  مدينتنا لضبط ساعاتهم عليها. وكان صوت جرسه يمكن سماعه من بعيد بام!… بام!… بــام!… بــام!…

بمدينتنا أمور كثيرة كانت تحدد وفقا له، مثل: تمليح ” حفظ ” اللحم، وإضاءة الشمع في ليلة السبت، ومساء السبت، وصلاة منتصف الليل، وصلاة التسابيح وغيرها. باختصار، العجوز كان بمثابة المعلم للمدينة بأكلمها، وكان يعمل عمله بصدق وإخلاص. لم يتوقف ساعة واحدة ليستريح، ولم يتذوق طعم الصيانة، ولم تصله يد الصانع أبدًا  باستثناء يد أبي. على الرغم من أنه لم يتعلم تلك الحرفة أبدًا كان ماهرًا في علات كل الدراجات والعجلات بمختلف أحجامها. وكان يفهم عن طريق الطبيعة الشمال أثناء سيره. كان أبي سنوياً ينزله من على الحائط في مساء عيد الفصح المساء الذي يتطهرون فيه، وكان أبي يدخلها إليها بحذر شديد، كان يبحث ويتحسس معداته الداخلية وينظفها باللقاطة أو بجناح دجاجة، وكان يخرج من داخله خيوط عنكبوت وذباب وبعوض كثير، كانوا ملقين طوال العام ذاته جثثا ميتة. وبعد ذلك كان يعلقها على الحائط كما كانت من قبل، ووجههما أشرقا، أي كلاهما وجهه أشرق: وجه العجوز أشرق بسبب تنظيفه وتزيينه، ووجه أي كان مشرقاً من ضوء وجه العجوز.

وكان ذات يوم بينما نحن الثلاثة أبي, أمي وابنهم الوحيد جالسين جميعا على المائدة، ونتناول الطعام وجبة الغداء. يجب أن تعلموا أنه في كل مرة يضرب فيها جرس العجوز أحب أن أحصي الساعات  وبالضبط بهذه المرة حينما بدأ الجرس يدق بدأت أعد: واحد   اثنان … ثلاثة … أربعة … خمسة … ستة … سبعة … ثمانية   تسعة … عشرة … أحد عشر … اثني عشر … ثلاثة عشر …

هاا ! صحت بتعجب وقفزت من مكاني ماذا تسمع أذناي؟ ثلاثة عشر؟ وأبي الذي كان منغس في الطعام أخرج الشوكة من بين أسنانه ونظر إلي وقال مبتسماً: الساعة الثالثة عشر؟ حقا أنت محاسب عظيم اللهم لا حسد! سمعتك تقول الثالثة عشر؟

  • لكن يا أبي سمعت الجرس بأذناي ضرب ثلاث عشرة مرة ” بام “

صاح بي أبي معاتباً: ثلاث عشرة صفعة سوف تحصل عليها من يداي الآن، الساعة لا يمكنها أن تدق ثلاث عشرة مرة ” بام “!  

سمعت أمي الشجار، وتدخلت أيضا بيننا: أخشى أن يصح قول الصبي، أعتقد أنني سمعت أيضاً هذه المرة ثلاث عشرة مرة ” بام ” 

قال لها أبي ساخراً: طالما سمعت أنت أيضاً ثلاث عشر مرة ” بام ” إذاً فلا مجال للشك!

وبعد تلاوة بركة الطعام قام أبي على رجليه وتقدم إلى العجوز وصعد لأعلى المقعد لامساً بأصابعه أحد التروس، وبدأ والجرس ونحن الثلاثة واقفون نحرك رؤوسنا: واحد … اثنان … ثلاثة أربعة … خمسة … ستة … سبعة … ثمانية … تسعة … عشرة أحد عشر … اثني عشر … ثلاثة عشر …

قال أبي بأسى: نعم! ثلاثة عشر! ونزل من المقعد، ونظر إلينا بعيون تغمرها الحيرة والخراب، كرجل سمع فجأة أصواتا تخرج من الحائط، أو كأن الأرض من تحته تقول شعراً.

حينئذ صعد ثانية على المقعد ولمس بأصابعه الترس الدوار، ورن الجرس مرة أخرى ثلاثة عشر.

وبحزن عميق قال لنا أبي: لقد تعطل العجوز. وبعد ذلك انغمس في خواطر الحزن.

فبادرته أمي وقالت له: لماذا وجهك عبوس، وكأنك فقدت صوابك، حاشا لله؟ قم بإنزال العجوز من على الحائط ورممه بما فتح الله عليك به من مقدرة.

وكان بمنتصف الليل, بينما نحن الثلاثة نقف عند الحائط، ننظر بعضنا لبعض ونحصي دقات الساعة ” العجوز ” اثنتي عشر دقة لا أكثر ولا أقل. سألنا أبي بفخر وسعادة عارمة على وجهه من يعلم من أين لى بهذه الحرفة؟ أجابت الأم أليس هذا دائما عقلاني لأنك رجل قوي، لكن هذا يصعب علي. لماذا يغير صوته والذي كان حتى الآن نقيا ويرن فيجذب القلب والآن يخرخر ويقلقل  “خيل – خيل – خيل “. فقال لها أبي أنت مخطئة. وفي الغد عندما دق الجرس تصنت أبي لصوت دقاته، لم يستطع أن ينكر أن العجوز يخرخر حقا، لأنه بالفعل سمع بنفسه كصوت إمام عجوز وضعيف، ومن يوم لآخر ومن لحظة لأخرى بدأ العجوز في خفض صوته وبدأ بندول الساعة في التحرك بصورة سيئة وثقيلة كالعجوز المريض الذي بالكاد يجر رجليه رغما عنها. رأى أبي أن العجوز يعد نفسه للراحة في دار الآخرة, وبدأ يبحث عن الحيل. وفي النهاية استنتجت أن الماكينة لا يعيبها سوى الثقل فقط، لأنه تقلص مع مرور الأيام, ولهذا علق بهم حتى ورق الشجر ودبت روح الحياة بالعجوز والبندول شمر عن ساعده كبطل مندفع نحو وليمة فابتهج وجه أبي.          

لم تدم الأيام كثيرا حتى بدأ العجوز في التكاسل في عملها أكثر من ذي قبل، والبندول  لم يعد يسير في الطريق الصحيح مرة في اتجاه ومرة في اتجاه آخر، وفي كل مرة نسمع صوت سعال كح… كح. صوت يمزق القلب ويثير الشفقة والاشمئزاز. كان من الصعب أن ترى لحظاته الأخيرة تقترب أكثر فأكثر وأبى يسير على قدم وساق كطبيب متخصص وهب نفسه من أجل إنقاذ مريض مهدد بالحمى. هكذا كان أبي، ترك نفسه ومنح كل قوته ومعرفته الغزيرة من أجل مداواة هذا  العجوز المريض.  كان يقول: القليل من الوزن القليل من الوزن، وبدأ يضيف عليه حملا وثقلا. في البداية ربط به مقلاة حديد وبعد ذلك صفيح نحاس، وفي النهاية قضيبا حديديا. كان أبى يقول لنفسه حقا روح هذا العجوز وحياته مرتبطان بالوزن وأضاف كيسا مملوءا بالتراب، وقالبي طوب, وحجر واحد، ومر يوم، ثم حلت الكارثة.              

كان هذا مساء ليلة السبت المقدس بعد تناول الوجبة الأولى أسماك متبلة بالخردل اللاذع، وبعض الحساء الساخن مع المكرونة والحلوى ومباركة الطعام. قدمت لنا الطباخة ” برينا ” ملء حفنتين من القرع على الموقد. فخالتى السيدة ” ينتال “، الأخت الصغيرة لأمى، امرأة بشرتها سوداء ورائعة، تعيش معنا تحت سقف واحد. دخلت تستقبلنا بعبارة سبت سعيد ولتتذوق من القرع الخاص بنا, ومن ناحية اخري لتسمع وتحكي الأخبار ولتتحدث قليلا عن أمور تافهة. بشأن الصيادين والأسماك، والنساء، والسكينة، والفقر المنبوذ، وزوجات الآباء وبناتهن وزوجات أبنائهن الخ. الشموع مشتعلة، واللوحة  تهتز على الحائط وتصدر البذور صوتا خفيفا عند تقشيرها، ومن داخل الشقوق يصدر الصرصور صوتا في الظلام بينما يتحدث أبناء العائلة ويحكون قصصا وحكايات ما بين الجد والهزل، وكانت أكثرهم حديثا خالتى ” ينتال ” التى كانت تعيد وتكرر حديثها، هل سمعتم هذا؟ حدثت كارثة لمدينتنا منذ وقت قريب، لصوص هجموا على أحد المنازل هجوما حيث يسكن هناك يهود أثرياء، وهجم عليهم اللصوص ليلا وقتلوا جميع من بالبيت، رجل وزوجته وسبعة أبناء، حتى الطفل الرضيع الذي كان في سريره ذبحوه بلا رحمة ولم تنج سوى الخادمة التى كانت نائمة على التنور، فنساها القاتلون وعندما سمعت الخادمة أنين الشهداء، قفزت من على التنور ورأت صاحب البيت يسبح في دمه، ينازع بين الحياة والموت، وزوجته سيدة البيت أيضا ملقاة على الأرض، تتمرق في دمها. انصدمت الخادمة مما رأته، وتمالكت نفسها وأسرعت الى المدينة لتنشر حادثة القتل، صرخت الفتاة انهضوا يا يهود، يوجد لصوص قتلة هجامة، أفيقوا واستيقظوا، كذلك كانت تقص خالتى ” ينتال ” الحادث المرعب، وصوتها يتعالى، ونحن جالسين نستمع لحديثها وكأن تلك الصورة الفظيعة المحزنة، تحدث أمام أعيننا، وتنطفئ الشموع واحدة تلو الأخرى، والصورة تتفاقم, والصرصور يصدر صريرا، وفجأة إذا بصوت صاخب وقوي طرااخ – دين – بوم  وبعد الضوضاء صمت فظيع. 

ظننا أن السقف انهال على رؤوسنا أو أن عمودا انهار من تحتنا لذلك مكثنا لبضع لحظات بأماكننا كأننا مثبتين بمسامير ونظر بعضنا لبعض، دون أن ننبت ببنت شفة. بعد ذلك بدأت أصرخ بصوت مرير: أمي … أمي. فسمعت أمي أنيني، فحضنتنى بذراعيها، ورفعت صوتها قائلة: يا ويلتي ظلام دامس ورعد صادم، سأفديك يا بني ويا ابن بطنى. سمع أبي صرخات أمي وصرخ بها، يا حمقاء لم تصرخين؟ تحدثت خالتى ” ينتال ” أيضا قائلة: انظروا من فضلكم كلهم يصرخون، لماذا تصرخون؟ ماذا رأيتم ؟ هل رأيتم سارقين، قاتلين, أم لصوص؟ أ حريقا سقط عليكم؟ سمعت الطباخة ” برينا ” تلك الكلمات، وأتت من المطبخ تسأل بتلهف وقلق أين الحريق؟ أين النار؟ أين؟ فقامت خالتى ” ينتال ” ووبختها، قائلة: اتركينا يا لك من امرأة حمقاء قاسية، لتخففي مصائبنا، من أرسلك لنا؟ يهودية مجنونة، اذهبي للمطبخ وامكثي هناك، يا إلهى لتحقق كل أحلامي التي حلمتها الليلة وكل ليلة، على أعدائي آمين يا رب، ألم تسمعوا بحياتكم أشخاص تصرخ؟ مما تصرخون؟ ألا تخجلون ألا تستحيوا؟ الأمر بسيط جدا، انظروا ها هو  العجوز  الذي ربطتم به كل أواني البيت. هل سقط من على الحائط؟  سقط وانكسر، فكرة عظيمة، ما رأيكم في أن تحاولوا أن تربطوا بأنفسكم حمل كهذا، جربوا من فضلكم ألا تخنعون أنتم أيضا تحت حملكم؟ هل سمعتم بحياتكم؟ هبت العاصفة من صمتها، ونحن نهضنا من أماكننا واحدا واحدا، واقتربنا من العجوز نلاحظه بشفقة، ها هو ملقى مهشم الأعضاء متمدد على الأرض، ووجهه للأسفل والبندول ملقى على الأرض يلعق التراب.

قال الأب بتنهد كبير وطأطأ رأسه: العجوز لم يعد موجودا، كان هذا العجوز يؤدي عمله لسنوات بأمانة والآن ها قد حانت نهايته مثل سائر المخلوقات، عندما رأت أمي أن أبي حزين تقدمت إليه لتواسيه قائلة: لما تحزن قلبك هكذا؟ ربما بعد السبت تعود لإصلاحه، إن شاء الله ؟ قال لها أبي: بصوت حزين وضحك مرير على شفتيه، الأموات أبدا لن يعودوا للحياة، وتقول أمي كلمات مواساة، من أين نعلم ربما يكن هذا؟ ربما قضاء الله أن تكون نهايته في ذلك المكان وفي تلك اللحظة؟ ربما كان من المقدر لنا مصيبة من السماء علينا أو على ابننا الوحيد، حاشا لله، وكان هذا كفارة لنا فردت خالتي ” ينتال ” رافعة يداها للسماء قائلة بتعجل كبير كعادتها: آمين يا الله مبارك هو واسمه آمين، هذه كفارتنا، هذا بديلنا  وهذه مكافئتنا، هذا العجوز يقضي نحبه، ونحن نعيش أياما طوالا بخير وسلام، رفعت وجهي ونظرت لوجه أبي، فكان أبيض مثل الكلس، وتنهمر الدموع من عينيه على وجنتيه وتختبئ في لحيته. هذه كانت المرة الأولى التي أرى فيها أبي يبكي, حينئذ فهمت بالفعل لماذا يبكى أبي؟ رغبت أيضا في أن أتقدم إليه وأسأله، يا أبي لماذا تبكي؟ لكنى تيقنت أن هذا ليس أخلاقيا؟ لذلك سكت وصعدت الى مرقدي، وعندما انطفأت الشمعة الأخيرة وضعت وجهي على الوسادة، وانهمرت في البكاء طوال هذه الليلة.      

عن عبد العزيز الطوالي

شاهد أيضاً

قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي

د.حسن بوعجب| المغرب             لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات