حاورها أحمد الشيخاوي
منذ نشأتها وإلى حدّ الآن، شهدت وتشهد الحركة التشكيلية في المغرب تطوّرا وتسارعا و وثيرة تصاعدية،كونها،من خلال مبدعيها،أي هذه الحركة اللافتة، دأبت على البحث في إمكانات امتلاك مقوّمات معرفية وجمالية لإبراز ملامح الهوية العربية إجمالا، ولم تزل كذلك، حسب النقاد والمهتمّين بالميدان الفني على مختلف عتباته ومتونه وأذواقه، علاوة على حيازتها لخصيصة الانفتاح على تجريبية واعية أكسبت المنتج التشكيلي ،بشكل عام،روح المواكبة والتنافسية على المستويين العربي والدولي.
هو مشهد متنوّع الأضرب والمعادلات ،توقّعه مختلف الأعمار وبريشة النوعيْن جنبا إلى جنب،وقد أسهمت في رسم ديباجته العديد من الأسماء والحساسيات،بوعي جديد متوهج ورؤى موسوعية استطاعت وإلى حدّ أقصى،استيعاب دروس التكامل والتلاقح الثقافي،في غمرة تفهّم الحاجة الملحّة إلى النص البصري العابر لحدود الجغرافيا والألسن والديانات،قياسا إلى سائر ما يشكّل المناخ الحاضن للهوية الإنسانية المشتركة، ويفجّر طقوس الانتماء إلى أفقها الشاسع.
وفقا لتيار المنظومة المفاهيمية الراصدة لحركة التشكيل العربي هذه، أجرينا حوارا شيقا مع الفنانة التشكيلية المغربية المبدعة كنزة العاقل، هذا نصّه.
هل لضيفتنا وضعنا في الصورة،وتقريب المتلقّي العربي من تجربتها أكثر،من تكون كنزة العاقل الإنسانة والفنانة معا؟
ــــــــــ كنزة العاقل فنانة تشكيلية مغربية عضو نقابة الفنانين التشكيليين المغاربة وعضو تجمع فنانون بلا حدود ورئيسة خلية الفنون التشكيلية والفوتوغرافية بمدارات للثقافة والفنون فاعلة جمعوية وأستاذة الفن التشكيلي بمركز تكوين وتنمية قدرات الشباب ومؤطرة ورشات فنية للأطفال، وﺎﻟﺮﺳﻢ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻲ ﻫﻮ ﺳﻔﻴﻨﺔ ﺍﻷﻣﺎﻥ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺣﻂ ﺍﻟﺮﺣﺎﻝ ﻋﻠﻰ ﻣتﻨﻬا ﻭﺃﻋﺒﺮ ﺑﻬﺎ ﻓﺼﻮﻝ ﻓﺮﺣﻲ ﺣﺰﻧﻲ ﻏﻀﺒﻲ ﻭﺟﻨﻮﻧﻲ ﻷﺻﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻜﻮﻥ، ﻧﻌﻴﺶ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﻣﺘﻨﺎﻗﺾ ﺃﻗﺒﻞ ﺑﻌﺾ ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ ﻭﻻ ﺃﺗﻘﺒﻞ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﺍﻵﺧﺮ، ﻓﺄﺻﻨﻊ ﻟﻨﻔﺴﻲ ﻋﺎﻟﻤﻲ ﺍﻟﺨﺎﺹ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻓﺮﻍ ﻓﻴﻪ ﺣﻤﻮﻟﺔ ﺫﻛﺮﻳﺎﺗﻲ، ﻓﺄﻧﺎ ﺃﺷﻌﺮ ﺑﻄﺎﻗﺔ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ ﺗﺮﻭﺽ ﺫﺍﺗﻲ ﻭﺗﺴﺘﻘﻄﺐ ﺃﺣﺎﺳيسي ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺭﺳﻢ ﻭﻫﺬﻩ ﻏﺎﻳﺔ ﺗﻔﺮﺡ ﻗﻠﺒﻲ ﻛﺜﻴﺮﺍ.
ما مدى حضور الأنوثة والطفولة في منجزك؟
ـــــــــ الأنوثة والأنثى حاضرة في أعمالي بشكل رمزي اعتمد في مواضيعي الرمزية على المرأة ككيان له دلالات عميقة وهو موضوع بحد ذاته فما بالك إذا كان رمزيا فهو يكون قويا جدا ومعبرا وملفتا لانتباه المتلقي، أما الطفولة فهي بداخلي في جميع مراحل حياتي ولا تقتصر أبدا على حياتي الفنية فقط فتلك الطفلة التي لا تكبر بما تحمله معها من مشاعر صافية نقية بعفويتها تلقائيتها الكبيرة لا تفارقني.
لقد كنت أستشعر الفرح في طفولتي عند توقفي لقراءة “أرسم ماما أرسم بابا بالألوان أرسم علمي فوق القمم أنا فنان”.
هو مقطع من محفوظات لم يغب عن ذهني أبداً، ولم أكن أدرك آنذاك حبي الطفولي والفطري للرسم، فقط كلمات تلك القصيدة كان لها طابع خاص يرتل على سمعي همساً بأنه أمر مختلف أن تكون فناناً، أو أنا مختلف سأكون فناناً فتلك الطفلة بداخلي هي ملهمتي في أي وقت وحين.
لاحظت أنّك مبدعة تعتقد بضرورة صقل الموهبة عبر الاحتكاك بأكبر عدد ممكن من المدارس الفنية ،ما جعلني أستحضر تاريخ التشكيلية المغربية المعروفة بــــ “الشعيبية طلال” في محطات اتقّاد حسّ الموهبة لديها،بمعزل عن حُقن تعاليم ووصايا المعاهد والأكاديميات، قدرا وعلوّ كعب،أهّلها لبلوغ الذروة والعالمية،بصوتها العصامي المكابر.
هل في مقدور كهذا ديدن،التمكين للذات المنقّبة عن موجبات فرض الاحترام ونقش واقع البصمة والخصوصية؟
ــــــــ التشكيل يحتاج بشكل أساسي إلى الموهبة الممزوجة بالذوق والإحساس الفني، فقد يكون فنانا رساما أكاديميا وقد يكون أكاديميا وليس فنانا وقد يكون فنانا مبدعا حتى لو لم يكن أكاديميا فهناك العديد من الفنانين الذين داع صيتهم عالميا ولم يتلقوا تكوينا أكاديميا و هذا هو الفنان الحقيقي الذي قد يتفوق بموهبته الربانية ويبدع لنا لوحات غاية في الجمال، وهذا لا يمنع من المرور بمرحلة تكوينية معينة من أجل صقل الموهبة أكثر وأكثر وتعلم أساليب مختلفة قد تساعد في تطوير المبدع لأعماله.
هل ثمّة مدرسة بعينها أو روّادا يغذّي مخزونهم سواء المعرفي أو الفني ، لوحاتك؟
ـــــــــــ لا يمكن حصر تأثري في الفن بفنان معين إذا ما تحدثنا عن رواد الفن العالميين فكلهم لهم تأثير على كل الفنانين بصفة عامة، فقط يمكن أن أجيب أن الفن الروسي عامة كان له الأثر البالغ في دراستي الفنية و أسلوبي الفني وأميل إلى مجموعة من المدارس منها الانطباعية الواقعية الرومانسية التجريدية والسريالية هاته الأخيرة التي أميل إليها أكثر فهي تهدف إلى البعد عن الحقيقة وإطلاق الأفكار والتصورات الخيالية وسيطرة الأحلام، فاللوحات السريالية تلقائية فنية ونفسية تعتمد على التعبير بالألوان عن الأفكار اللاشعورية والإيمان بالقدرة الهائلة للأحلام إذ أنها تعتمد على اللاشعور وفي هذه الحالة تكون اللوحة أكثر صدقا واهتمت بالمضمون وليس بالشكل ولهذا تبدو اللوحات السريالية غامضة ومعقدة، وإن كانت منبعاً فنياً لاكتشافات تشكيلية رمزية لا نهاية لها، تحمل المضامين الفكرية والانفعالية التي تحتاج إلى ترجمة من الجمهور المتذوق، كي يدرك مغزاها حسب خبراته الماضية وهذا ما يثير حماستي عند رسمي لوحة سريالية لأنها تكون غريبة وغرابتها هو ما يميزها مما يجعل الجمهور يقف مطولا عندها لمحاولة قراءتها والبحث في مغزاها العميق، وهذا ما يفرحني كثيرا والرمزية من أحب المدارس إلى قلبي فهي تعطيني مساحة للاشتغال بمواضيع معينة وطرحها في قالب تشكيلي معين يجعل المتلقي أكثر اهتماما وحبا لمعرفة تلك الرمزية ودلالاتها.
تستثمرين معطيات الموروث المغربي بما يحقّق تناغما وتماهيا مع الانتساب العربي،ويتخطّاه في كثير من الأحيان إلى فوقية إنسانية جامعة،ألديك قصّة ما مع لوحة بحدّ ذاتها،في حدود الاشتغال على حضور المرأة،في أعمالك الفنية،كما حصل في نشاطك الأخير بتونس..لوحة معينة، تفسّر مثل هذه الخاصية؟
ـــــــــ طبعا كل لوحة هي جزء مني وجزء من حياتي وكل لوحة موضوعها المرأة هي جزء من حياة كل امرأة، لا يمكن أن اختزلها في قصة معينة بحد ذاتها، طبعا الفنان يتأثر بمحيطه وبكل ما يدور من حوله وما يسمعه من قصص قد تغني تشكيلاته الفنية وهذا أمر مسلم به.
وبالنسبة للوحة المرأة التي كانت موضوع الجدارية التي أنجزتها خلال مشاركتي وتمثيلي بلدي المغرب في الملتقى العربي للفن والإبداع بتونس الشقيقة كان موضوعا مهما وقويا في الظروف الحالية التي تمر بها المرأة في وطننا العربي والمعاناة التي تعانيها فهي رمز العطاء بلا حدود مهما كانت وضعيتها ومهما كانت معاناتها فهي لا تتوقف عن العطاء وهي تشبه في ذلك الشجرة التي هي رمز العطاء ولعل أبرز ما قيل عن تلك الجدارية هي القراءة النقدية للناقد والفنان القدير الجزائري رضى بغدادلي حيث قال؛ إن رسالة الفنانة كنزة العاقل تعتمد على عمق الموضوع وهذا الذي يعطيها قوة في سرد الرسالة الفنية.
مقارنة مع المدارس الأخرى، لا نحكم على شيء جمالي حتى نرتبه في مدرسته الحقيقية لأن كل مدرسة تعتمد على مزايا وقوانين و فلسفلة تحمل خلفية العمل الفني، إذن عندما ننتقد لوحة لابد أن نشير إلى المدرسة التي تحمل عاتق هذا العمل.
فالعمل الفني للفنانة كنزة نستطيع أن ندرجه من الأعمال الفنية القوية لأنها تحمل عدة أشعة محصلتها تستقطب رؤية العين الملاحظة، فمن حيث حزمة الألوان فنجد الفنانة مرتكزة على نفس مدار الرؤية ونفس الطاقة الحرارية، فهناك اتزان بين اللون الحار البني واللون البارد لون السماء الذي أعطى اتزان في اللوحة، أما الشعاع الثاني الشعاع المتم فهو يعكس سيكولوجية الفنانة التي تعطي صورة مشخصة عن ما هو الأنا، فالفنانة تتكلم عن نفسها من الناحية الشخصية من ناحية قوة شخصيتها وأبعادها الفكرية، نقول أنها مرت بحياة صعبة وتأمل في حياة أفضل وأن هذه الحياة الصعبة أعطت لها رصيد قوي في تحمل الأشياء وتلك التشعبات تعني مدى تخطيها للصعوبات والحواجز التي جعلتها أقوى من غيرها.
ويمكن أن نقول أن وجود اللون البني يرمز إلى الثقافة وتمسك الفنانة بالتراث وحضارتها وثقافتها.
أما الشعاع الثالث وهو شعاع الموضوع الفكري الذي يرتكز في مركز اللوحة، فليس هناك فراغ وهناك حسن توزيع الموضوع مما يعني لوحة جميلة جدا،وما ينصح به الناس هو أن تتأمل المواضيع وتختص في مداعبتها لأن الشعب العربي يعاني من عدة مواضيع فلا نحتاج للجزئيات فيلزم إرسال رسائل لتوعية العقل ورسالة الفنانة عبر لوحتها هذه من الرسائل التي سوف يحبها الشعب العربي.
تعاطيك مع الأنثوي، كتيمة تُلهم بفصول رمزية متداخلة ،مترجمة تقنية المزج ما بين الألوان الدّالة على برودة الراهن ونزوع الذات التشكيلية صوب ما قد يولّد الدفء المرغوب في ملء كامل هذا الخواء الذي يعيشه الكائن، نتيجة الاحتكاك المخملي بصميم إنسانيتنا الضائعة،هل هو عفوي أم مقصود يحيل على وعي أنثوي طاغ ومقموع نوعا ما، مما يعني ويراد منه بالنهاية، تحقيق الأنْوية الأولى في التأسيس للفرادة والنوعية والدغدغة ببوادر اتجاه بكر ،واش بصياغات الانحياز لصفّ المرأة والذود عن هويتها وحقوقها المهضومة في مجتمعاتنا العربية المحافظة والراعية لغطرسة الشهوانية في الصوت الذكوري الجائر..؟
ـــــــــ نعم من المواضيع التي تثير حماستي ويستهويني رسمها المواضيع التي لها وثيق الارتباط بالأنثى أحب أن أستعمل الرمزية في أعمالي التي أتناول فيها موضوع المرآة الأنثى بحيث تكون رسالتي عميقة وفكرية وعقلانية أكثر مما إذا رسمتها بشكل واقعي، وبذلك تتحقق متعتي الجمالية الكبيرة، فهي جزء لا يتجزأ مني والألم جزء لا يتجزأ منها بإسقاطات موضوعاتية مختلفة ناقلة لرؤى معينة معاشة وتعيشها الأنثى باختلاف الوسط والزمان والمكان الذي وجدت فيه.
وهنا أستحضر قراءة الفنان التشكيلي القدير العراقي مهند الداوود لعملي الفني الجدارية التي أنجزتها في تونس والتي كان موضوعها المرأة حيث أكد أن الإبداع هو صهر عناصر الواقع في بوثقة التخيل واللاشعور لإنتاج شيء جديد محسوس يضيف للعالم قيم جمالية جديدة ومعرفية لم تكن معروفة من قبل، وقال لقد استطاعت الفنانة كنزة العاقل أن تحقق علاقة بصرية على حائط ذو بعدين حولتها إلى أبعاد متعددة تقرأ بقراءات سيميائية بنيوية جميلة جدا، وهذا أيضا هو التشكيل فالتشكيل شكل ما تريد المهم أن تحقق لذة ومتعة للمتلقي، فالفنانة كنزة حققت هذه المتعة للمتلقي في هذه العلاقة التي جسدت فيها المرأة، وما أدراك ما المرأة فهي الأرض وهي الخصب وهي النماء وهي القديس الذي كان يعبد في يوم ما، ودياناتنا السماوية تقدسها والله جعل الجنة تحت أقدامها، فاستطاعت الفنانة أن تجسدها في هاته العلاقة عندما ننقد العمل سيميائيا نجد الفنانة جعلت من وجه المرأة نصفين جماليين، هي المرأة الحالمة تلك المرأة التي تحمل في ثناياها ألما متخفيا، استطاعت الفنانة أن تجسد الألم الذي تعاني منه المرأة وهذا أيضا بيد الفنان لأن وظيفة الفن الأساسية كما قال رولانفاو تبدأ بإزالة المألوف فاستطاعت الفنانة كنزة أن تزيل شيئا من المألوف واستطاعت أن تعمل بقوانين فنية صارمة ، أجادت في الواقعية وأجادت في السريالية وأجادت في التشكيل بصورة عامة واستطاعت أن تجعل التيمائية في هذا العمل للمرأة، فالشجرة تعني أن لها جذور راسخة في الأرض المرأة غذتنا وأعطتنا ولازالت تعطي، فشكرا للفنانة كنزة العاقل على هذا اللطف الجمالي المتخفي ما وراء الشجرة عمل فيه تيمائية مزجت بين الشجرة والمرأة إشارة بهذه الشجرة إلى المرأة برمزية عميقة جدا، تلك المرأة الراسخة جذورها في الأرض والتي أعطتنا الكثير والكثير، فالسؤال هنا أين؟ السؤال هو من يعطي للمرأة؟ الفنانة كنزة أعطت للمرأة هذه الجمالية وجسدتها في هذه العلاقة المتوازنة.